لو طال بيَّا العُمر ألف عام؛ عُمري ما هنسى باب شقتنا وهو بيخبَّط في نُص الليل، خرجت أجري من أوضتي، ومن القلق والخوف اتكعبلت في طرف سجادة الصالة ونزلت على وشِّي، لكني قُمت وكمِّلت طريقي، فَتحت الباب والخوف كان زي السكاكين جوايا، أصل أبويا بقى بيخرج ومش بيرجع غير في وقت متأخر، وسبب خوفي إن يكون جرى له حاجة وحَد جاي يبلَّغني، فتحت الباب وأنا حاطط إيدي على قلبي، وساعتها شُفت واحد جارنا، ملامحه كانت بتقول إنه مخبّي خبر مؤلم وراها، وقفت متخشِّب، أنفاسي زادت وأنا ببُص في عينيه اللي كانوا بيبصوا في كل حاجة حواليا إلا أنا، كل دَه أكِّد لي إني هسمع خبر مؤسف، ودَه حصل فعلًا لما بلع ريقه وأخد نَفَس عميق وقال بعده:
-في عربية خبطت عَم رشاد يا حسين!
رشاد دَه يبقى أبويا، قاومت كل أحاسيس الخوف اللي جوايا وخرجت، مشيت وأنا حاسس إني هتكفى على وشّي، لحد ما وصلت مكان ما العربية خبطت أبويا، في أوِّل شارعنا، وده معناه حاجة واحدة بَس، وهي إن أبويا كان راجع زي عوايده في الفترة الأخيرة والعربية خبطته.
الدنيا ضلمة والناس كانت ملمومة حواليه، دخلت من وسطهم وأنا بَزُق فيهم، لحد ما بقيت واقف قدام أبويا اللي نايم في الأرض وخيط دَم سايل من بوقّه، النار مسكت في جسمي من الحزن، آخر حاجة كُنت أتوقعها إني أفقد الإنسان الوحيد اللي باقيلي في الدنيا، وبدل ما يموت موتة طبيعية في سريره، يموت في الشارع ودمُّه سايل على الأرض.
نزلت في الأرض جنبه وأنا مُش قادر أنطق، كل اللي قدرت أعمله في الوقت ده؛ هو إني مديت إيدي وحطيتها فوق عين أبويا المفتوحة، سحبتهم لتحت عشان جفونه تقفل ومشوفش الخوف اللي فضِل ظاهر في عيونه حتى بعد ما مات، بعدها حطيت راسي على صدره وبكيت وكأني طفل، حسيت في الوقت دَه إني خرجت برَّه الدنيا، مكنتش حاسس بالناس من حواليا، مكانش قدامي غير صورة أبويا وهو ميِّت، وفي نفس الوقت مكنتش قادر أبعِد الهاجس اللي جوايا، واللي كان بيوهمني إن أبويا بيتنفِّس، وكل ما الإحساس دَه كان بيراودني؛ كنت برفع عيني ناحية وشُّه، وأشوف عينيه المغمَّضة وملامحه اللي بقت في قبضة الموت، عشان أتأكد من إن أنفاسه اللي سمعتها ما هي إلا وهم، وأكيد عدم استيعابي للي حصل ورفضي لقبول فكرة موت أبويا؛ همُّا السبب ورا الوهم ده.
وعيي بدأ يرجع لما سمعت سارينة عربية الإسعاف وهي بتقرَّب، ومعاها سمعت سارينة عربية الشرطة، أصل اللي شافوا الحادثة اتصلوا بالإسعاف قبل ما يبلغوا الشرطة، كانوا فاكرين إن أبويا لسَّه فيه النَّفَس، لكن قضاء الله كان نافذ.
جثة أبويا اتنقلت المشرحة، وبعدها بدأت الإجراءات العادية اللي كلنا عارفينها، الشرطة بدأت تستجوب الناس اللي كانوا حاضرين، لكن مفيش حد منهم كان عنده معلومة مفيدة، أول واحد شاف أبويا قال: إنه سمع صوت العربية وسمع اصطدامها بِشخص، وعلى ما خرج شاف أبويا واقع في الأرض وملقاش العربية، دَه غير إن المكان اللي أبويا اتخبط فيه مكانش فيه كاميرات، يعني اللي ارتكب الحادثة سواء بقصد أو بدون قصد؛ مسابش وراه طَرف خيط نمشي وراه، خصوصًا وإن وقت الحادثة كان متأخر ومكانش حد موجود في الوقت ده، واللي اكتشف الحادثة خرج على صوتها بعد ما العربية هربت.
لحد ما قعدت على الكرسي اللي قدام مكتب ظابط المباحث؛ مكنتش مستوعب اللي حصل، لدرجة إني مردِّتش على الظابط لما قال لي:
-البقاء لله يا أستاذ حسين؛ أنا عارف إن الموقف صعب، بَس لازم تبقى قَد المسئولية، والدك الله يرحمه مات في حادثة، ولحد دلوقت مش عارفين مين اللي عمل كِدَه، ولا عارفين إن كانت الحادثة مقصودة ولا حصلت بالصدفة، لكن صاحب العربية استغل إن الوقت متأخر والدنيا ليل وإن مفيش حد شافه، وكانت النتيجة إنه هرب من مكان الحادثة، عشان كده عاوزك تساعدنا.
-أنا تحت أمرك يا فندم؟
-إحنا عرفنا إن الوالد الله يرحمه كان شغال في مصنع بينتج المكرونة والأصناف المتعلقة بيها؛ مظبوط؟
-مظبوط يا فندم.
-يا ترى إيه سبب إنه ساب شُغله في المصنع فجأة؟
-معرفش يا فندم، هو فجأة استقال من شغله وقال إنه شقيان طول عمره وعاوز يرتاح، خصوصًا إنه كان فاضل لُه سنة واحدة على المعاش، يعني كلها كانت محصَّلة بعضها.
-والدك الله يرحمه كان في الحسابات؛ مظبوط؟
-أيوه يا فندم، كان كاتب حسابات في المصنع.
-مفيش مرَّة سمعته بيتكلم عن مشكلة بينه وبين حَد في الشغل، أو من الجيران، أو مشكلة بينه وبين أي حد عمومًا؟
-لأ يا فندم؛ أبويا الله يرحمه كان طيِّب وفي حاله.
-تمام يا أستاذ حسين، تقدر تتفضل ولو وصلنا لحاجة هنبلَّغك.
خرجت من عنده وأنا بلوم نفسي، أصل اللي قُلته جوَّه مكانش الحقيقة، أبويا مقدِّمش استقالة بإرادته من المصنع، دَه تم إجباره على الاستقالة، وده بعد ما تم اتهامه بالاختلاس، ودَه لأن الخزنة كانت في عهدته، وبعد ما جرَدها وقفلها قبل ما يخرج من المصنع والدنيا كانت تمام كالعادة؛ تاني يوم الصبح لقاها ناقصة مبلغ مُش كبير، وبما إن مفتاحها كان مع أبويا تم اتهامه بالاختلاس، ولأن أبويا قضّى عمره في المصنع، المسئولين هناك قرروا إنهم يراعوا فترة خدمته، وقرروا إنه يستقيل في مقابل إنهم يتغاضوا عن المبلغ اللي تَم اختلاسه، خصوصًا وإنه مُش المبلغ الكبير اللي يهِز ميزانية المصنع، ولحد هنا أبويا ساب المصنع وقال للناس إنه استقال عشان يرتاح، لكن الحقيقة مكانش يعرفها غيري أنا وهوَّ الله يرحمه، وكام واحد من اللي شغالين في المصنع، ومن وقت ما الحكاية دي حصلت؛ وأبويا بيخرج من البيت كتير ومبيرجعش غير متأخر، لحد ما حصل اللي حصل، وده سبب إني متكلِّمتش قدام ظابط المباحث، أبويا قدام الناس كلها خرج من المصنع مُستقيل، ومحدش يعرف إنه خارج بسبب تهمة الاختلاس، ومكانش ينفع إن أشوِّه اسمه بنفسي وبعد ما مات كمان، وخصوصًا إن حاجة زي دي تدين أبويا وعُمرها ما هتتفسَّر لصالحه، ومُش هتكون دليل اتهام ضد حد من اللي في المصنع، أصل مين اللي من مصلحته يقتل واحد خرج من مكان شغله بسبب اختلاس!
الإجراءات انتهت والحادثة اتقيدت ضد مجهول، التحقيقات موصلتش للعربية ولا لصاحبها، أبويا اندفن والعزا انتهى، وبقيت عايش بطولي في الشَّقة. الحياة من الوقت ده اختلفت تمامًا، بعد ما كُنت بدوَّر على شغل وأنا مرتاح ومُش مضغوط، لقيت إني لازم ألاقي شغلانة النهارده قبل بُكره، خصوصًا وإن القرشين اللي موجودين انصرفوا على دفنة أبويا والعزا والكلام اللي بالكم فيه ده، عشان كِدَه كان لازم ألاقي أي وظيفة حتى لو مؤقتة أعيش منها الفترة دي.
رفعت التليفون على مُراد صديقي، اتخرَّجنا سوا من كلية التجارة ولسَّه الصداقة موجودة بينا، لكن ربنا كِرِمُه قبلي واشتغل مع تاجر مواد غذائية كبير، انتظرت لحد ما رَد عليا وقلت له:
-إزيك يا مُراد، إيه يابني؛ رُحت وقُلت عدّوا لي؟
-معلش يا صاحبي؛ من بعد عزا والدك وأنا مفحوت في الشغل، بجيب طلبيات وأودِّي طلبيات، أنت عارف اللي فيها.
-ربنا يعينك يا صاحبي، بقول لَك إيه، عاوزك في حوار كده.
-عينيا ليك يا حسين.
-دَه العَشم برضه، بَس أنا بقول بلاش في التليفون، ياريت نتقابل أحسن.
-يبقى نتقابل على القهوة بالليل.
ليلتها قعدت على القهوة في انتظار مراد، عقلي كان شارد وخيوط الأفكار في دماغي كانت متعقَّدة، مُخّي كان بيوِش زي القناة اللي مفصول عنها الإرسال، صورة أبويا وهو ميِّت مفارقتش خيالي، ومخرجتش من دايرة التوهان غير لما سمعت حد بيخبط على الترابيزة اللي أنا قاعد عليها، لمَّا رفعت وشِّي لقيته مُراد، ساعتها بَص لي وقال لي:
-وحِّد الله يا حسين، هتفضل شايل طاجِن ستَّك كِدَه! أنا عارف إن الحادثة اللي مات فيها عم رشاد الله يرحمه مأثرة عليك، بَس تعددت الأسباب والموت واحد، والموت علينا حق.
-ونعم بالله.
-أيون كِدَه فُكِّها، جايبني على ملا وشِّي ليه بقى؟
-أنا محتاج شُغل، القرشين اللي موجودين خلصوا ولسَّه مفيش شركة من اللي قدمت فيهم كلمتني.
-طيِّب وأنت تاعب نفسك ليه، المصنع اللي عم رشاد الله يرحمه كان بيشتغل فيه اللايحة بتاعته بتقول إن من حق أي موظف خرج معاش يعيِّن واحد من أقارب الدرجة الأولى، يعني أنت من حقَّك تروح تقدِّم ورقك وتتعيِّن، أنت إزاي مفكَّرتش في الحكاية دي!
كل اللي بيقوله كنت عارفه، لكن مكنتش عارف أحكي لُه الحكاية إزاي وأقول له على السبب اللي مانعني من إني آخد الخطوة دي، لكن اختصارًا للكلام قُلت له:
-مُش هينفع يا مُراد.
-إيه بَس اللي هيقِل نَفعه يا صاحبي!
-عشان أبويا الله يرحمه مقدِّمش استقالة زي ما ناس كتير تعرف.
-إيه الكلام اللي بتقوله دَه، أومال ساب المصنع إزاي؟
-الإدارة أجبرته على الاستقالة.
-إزاي يعني؟
-دَه اللي حصل، اكتشفوا مبلغ ناقص من الخزنة واتهموا أبويا بالاختلاس، وطبعًا لأنه راجل كبير وقضَى عُمره في المصنع محبّوش إنهم يكبروا الموضوع وتبقى قضية، واكتفوا إنه يقدم استقالته في مقابل إن الحكاية تتقفل.
-أنا مش مصدق وداني؛ بقى عَم رشاد الله يرحمه يختلس؟ مُستحيل!
-أنا كمان بقول مُستحيل، المشكلة إن أبويا مكانش بيتكلم في الموضوع ولا بيقول تفاصيل، وبقى مقضي أغلب وقته برَّه البيت وبيرجع متأخر، لحد ما الحادثة حصلت.
-والمبلغ اللي بيقولوا إنه اختلسه ده كبير؟
-معرفش كام بالظبط، بَس سمعت أبويا بعدها بيكلم نفسه من الصدمة وبيقول: ده حتى على رأي المثل، إن سرقت اسرق جَمل، معقول يتهموني بسرعة مبلغ تافه زي ده، ومن هنا عرفت إن المبلغ مش كبير، وجايز ده اللي خلاهم يكتفوا بإنهم يجبروه على الاستقالة ويقفلوا الحكاية.
-أومال مقولتش الكلام ده في التحقيقات ليه؟
-عاوزني أقول إن أبويا خرج من شغله بسبب جريمة اختلاس! أكيد مُش هوسَّخ اسمه خصوصًا وهو ميِّت.
-ما جايز الحادثة ليها علاقة بالكلام ده، مكانش المفروض تسكت.
-الحادثة دي غريبة، تخيل عربية ماشية في منطقة سكنية وشوراع ضيقة، الوقت ليل متأخر والشوارع ضلمة، وماشية بالسرعة اللي تخليها تصدم بني آدم لدرجة إنه يموت، مُش داخلة دماغي بصراحة.
-للمرَّة التانية هقول لَك، ليه برضه مقولتش الكلام ده؟
-عشان محدِّش شاف العربية، ومفيش كاميرات في مكان الحادثة، حتى التحقيقات موصلتش لحاجة، عشان أقول بقى إن أبويا ساب المصنع بسبب الاختلاس، وإن الحادثة ليها علاقة بالموضوع ده هيبقى كلام مُش منطقي، ومش هقدر أثبت حاجة خصوصًا إن موقف أبويا الله يرحمه ضعيف، وطالما خرج من شغله بتهمة اختلاس ظالمة يبقى المفروض هو اللي يكون عنده دافع انتقام مُش العكس، يعني الأحداث ماشية في خط سير عكس اللي المفروض تمشي فيه لو ربطنا حادثة موته بشغله.
-هوَّ كلامك مظبوط وكل حاجة، بَس مش ملاحظ تفصيلة صغيرة؟
-تقصد إيه؟
-اللي بتقوله معناه إن الحادثة مقصودة ومش صدفة، يعني اللي ارتكبها كان عارف الوقت اللي عم رشاد بيرجع فيه، والطريق اللي بيمشي منُّه، حتى اختار المكان اللي مفيهوش كاميرات عشان محدِّش يمسك عليه حاجة، لأن فعلًا الشوارع متسمحش إن عربية تجري فيها إلا بقى لو الحكاية مقصودة.
-جايز يكون معاك حق يا مُراد، بَس تفتكر مين اللي ممكن يعمل ده، خصوصًا إن أبويا الله يرحمه مفيش بينه وبين حد حاجة.
-الأيام كفيلة إنها تثبت كل حاجة يا حسين، يا خبر بفلوس بُكره يبقى ببلاش، وبالنسبة للموضوع اللي جبتني القهوة عشانه؛ فأنا رأيي يا صاحبي تقدِّم ورقك في المصنع، سيبك من حكاية الاختلاس دي، جايز لما يعرفوا إن عم رشاد تعيش أنت الدنيا تتغيَّر، وتشتغل هناك بما إنك ابن واحد من اللي كانوا شغالين في المصنع، وعن نفسي هتكلِّم مع أبو فؤاد اللي بشتغل معاه، واللي فيه الخير يقدِّمه ربنا.
خلصنا قعدتنا على القهوة ومشينا، رجعت على البيت وأنا حاسس إني واقع في دوامة، بَس صرفت نظر عن اقتراح مُراد؛ لمَّا طلب منّي أروح أقدِّم ورقي في المصنع، مكانش عندي استعداد إن ورقي يترفض بسبب الظروف اللي أبويا خرج بسببها من المصنع، عشان كده على ما وصلت الشقة كنت مقرر إني مش هاخد الخطوة دي، ولقيت إن من الأفضل أنتظر مُراد يتكلِّم مع أبو فؤاد اللي هوَّ بيشتغل معاه.
قفلت باب الشقة ودخلت، قعدت على كُرسي أنتريه قريّب من الباب، سندت راسي على ضَهر الكرسي، الصداع كان هيفرتِك دماغي من كُتر التفكير، عشان كده غمَّضت عينيا، مَفتحتهاش غير لما سمعت صوت بيقول لي:
-حمد الله على السلامة يا حسين!
كان صوت أبويا الله يرحمه، وهي دي الجملة اللي كان دايمًا يقولها لما برجع من برَّه في وقت متأخَّر، فَتحت عيني وأنا مُش مستوعب اللي وداني سمعاه، كل اللي في بالي إني تخيَّلت الصوت بسبب إنه كان محور كلامي على القهوة مع مُراد، لكن كل دَه راح من تفكيري لمَّا سمعت أنفاس عالية قريِّبة منّي، كانت جاية من ناحية كنبة الأنتريه اللي جنبي، بصِّيت ناحيتها ولقيت إن كل حواسّي وقفت فجأة، ودَه ببساطة لأني شُفت أبويا قاعد على كنبة الأنتريه، بنفس الطقم اللي كان لابسه في الحادثة ومات فيه.. كان ظاهر في نفس الصورة اللي شُفته ميِّت فيها، عينيه مفتوحه وكان في خيط دَم نازل من بوقّه، لدرجة إن نُقَط الدَّم كانت نازلة قدامه على السجادة.
حسيت إن كل شعرة في جسمي بتطقطق وبتشيب، عقلي مكانش مستوعب إني شايف جثة أبويا قدامي، حاولت أتكلم لكن لساني مطاوعنيش، الرعشة حسستني إن جسمي بيتزلزل، واتزلزل أكتر لما لقيت أبويا وهو على حاله ده بيكلمني:
-مكانتش حادثة طبيعية يا حسين؛ أنا اتقتلت!
المشهد كان أقرب من تمثال بيتكلم، لأن الصوت كان طالع منه بدون ما بوقّه يتحرَّك، كل اللي قدرت أعمله هو إني بحلقت فيه، لكن فجأة كل ده اختفى، أبويا فَص ملح وداب، في اللحظة دي بَس قدرت أقوم من مكاني، قرَّبت من كنبة الأنتريه وأنا بحاول ألاقي تفسير اللي حصل، كل ده وأنا جوايا يقين بإن اللي شُفته مجرد وهم، لكن اليقين دَه تلاشى لمَّا لقيت فوق السجادة نُقط دَم من أثر الدَّم اللي كان نازل من بوق أبويا!
بعد ما أبويا اختفى من قدامي صوته ظهر من تاني، كان بيأكد عليا إنه اتقتل وإن الحادثة مكانتش صدفة، اللي بيحصل كان زي باب قديم مقفول على سِر واتفتح فجأة، بدأت أراجع حساباتي من تاني، أسئلة كتير دارت في دماغي وأنا عيني رايحة جاية في الصالة الفاضية، ليه أبويا ظهر لي بنفس الهيئة اللي مات فيها؟ ليه جاي يقول لي إنه اتقتل وإنها مش مجرَّد حادثة عادية؟
حاجة زي دي لو مكانتش وهم أو تهيؤات، هتكون كفيلة إنها تقلب حياتي، أي نعم لو الحادثة مكانتش صدفة هكون عاوز أعرف مين اللي عمل كده ولازم حق أبويا يرجع، بَس الحكاية عاملة زي اللي بيدوَّر على إبرة في كومة قَش، مكنتش عارف أبدأ منين ولا إزاي، لكن للحظة حسيت إن ظهور أبويا قدامي وكلامه ليَّا مُش تهيؤات، وده بسبب إنه كان قُريِّب من كلام مُراد عن الحادثة لمَّا قعدنا سوا على القهوة، وفي اللحظة دي غيَّرت رأيي ورجعت في قراري، وقرَّرت أروح أقدِّم ورقي في المصنع اللي أبويا كان بيشتغل فيه وأنا عارف النتيجة مقدمًا، وبرغم إن لحد دلوقت مفيش أي علاقة بين اللي حصل مع أبويا في شغله وبين الحادثة، لكن لقيت نفسي عاوز أعمل ده لحاجة في نَفس يعقوب.
تاني يوم الصبح كنت واقف قدام بوابة المصنع وبراجع في أوراقي، بعدها دخلت المبنى الإداري وسألت لحد ما وصلت قسم الموارد البشرية، وبعد ما قعدت مع مسئول التوظيف وشاف الأوراق لقيته بيقول لي:
-أنت ابن واحد من العاملين في المصنع.
-دَه صحيح؛ ابن الأستاذ رشاد الله يرحمه كاتب الحسابات.
بَص لي من فوق لتحت زي ما يكون مستغرب وجودي قدامه، لكن كل ده اتفسَّر لمَّا قال لي:
-أنت بالذات مينفعش تتوظَّف في المصنع برغم إنك واحد من أبناء العاملين.
من قبل ما يكمل كلامه كنت عارف السبب، وبرغم كده كمِّل وقال:
-لأن باختصار، والدك الله يرحمه بقى خرج من الشغل بسبب اختلاسه مبلغ من الخزينة، والإدارت راعت سنين خدمته وسنه واكتفت بإنه يقدم استقالته.
كان موقف بايخ زعلت إني حطيت نفسي فيه، ابتسمت لمسئول التوظيف وأخدت بعضي ومشيت بدون ما أعلَّق على كلامه، لأن أي حاجة ممكن أقولها مالهاش لازمة، وفي نفس الوقت مكنتش مستوعب إن أبويا الله يرحمه ممكن يختلس.
لمَّا خرجت من المصنع رنيت على مراد، بلَّغته إني لسَّه خارج من المصنع وعملت زي ما طلب منّي، دَه غير إني بلَّغته برد الموظف عليا، وساعتها لقيته بيقول لي:
-ولا يهمك يا صاحبي، أنا أصلًا كنت هطلب منك نتقابل بالليل لأني كلمت أبو فؤاد عنَّك ووافق إنك تنزل الشغل.
في الليلة دي اتقابلنا على القهوة، والكلام فضل رايح جاي ما بينّا لغاية ما قال لي:
-أبو فؤاد قال إنك جيت في وقتك، في أمين المخزن من اللي شغالين معانا بلَّغه من كام يوم إنه رايح شُغل تاني، وكده أو كده هيحتاج واحد مكانه.
ابتسمت وأنا بحاول أعمل نفسي مبسوط وقُلت:
-كان نفسي أبقى مُحاسب كبير، بَس الظروف جَت كِدَه، فرصتي في إني أتعيِّن محاسب في المصنع راحت، ودلوقت مُضطر إني أشتغل أمين مخزن.
-ما توحِّد الله بقى يا حسين، وبعدين أبو فؤاد بيكبَّر الناس اللي دماغها شغالة، كل ما تثبت نفسك هيعتمد عليك أكتر ويكبَّرك.
بعدها بيومين كُنت بستلم الشغل من أمين المخزن اللي هشتغل مكانه، وفي الوقت دَه حاولت أفضّي دماغي من كل الأحداث اللي فاتت؛ عشان أكون مركّز في شغلي وأحافظ على أكل عيشي، الشُّغل عبارة عن إني بتواجد في مكتب صغيَّر موجود في أول المخزن، ومهمّتي أسجِّل الوارد والصادر وأبقى عارف رصيد كل صنف موجود، والأصناف دي كانت عبارة عن رز ومكرونات وعدس وحاجات زي كده، ولو حاجة قرَّبت تنقص كانت مهمّتي أبلَّغ المسئول عشان يطلبها.
بعد ما استلمت الشغل قعدت في المكتب وبدأت أقلِّب في الدفاتر، كُنت بشوف الدنيا ماشية إزاي، وفي عِز ما كنت مركِّز لمحت ظِل اتوَجَد فجأة فوق الدفتر اللي قدامي، رفعت وشّي عشان أشوف مين اللي قدامي، في اللحظة دي لقيت شَخص بشوفه لأول مرَّة، أول ما بصّيت ناحيته سألني:
-أنت أمين المخزن الجديد؟
-أيون أنا، حضرتك تبقى مين؟
-سعيد؛ مسئول عن المخازن، وتقدر تعتبرني الدراع اليمين لأبو فؤاد.
-تشرفت بحضرتك.
-عاوزك في خلال نُص ساعة تعمل حصر لأصناف المكرونات وتعرف إيه الناقص وتبلَّغني، عشان أجهِّز طلبية وأبعتها للمصنع.
بعد ما خلَّص كلامه سابني وخرج من المكتب، فتحت الدفتر اللي كان مكتوب عليه أرصدة المكرونات، ولمَّا بدأت أقلِّب في صفحاته اتضح لي إن المكرونات من نفس المصنع اللي أبويا الله يرحمه كان بيشتغل فيه، ساعتها إيدي اتهزَّت وتركيزي اتشتت، بَس رجعت قُلت لنفسي عادي، تاجر مواد غذائية وطبيعي إنه يتعامل مع المصنع زي ما كتير بيتعاملوا.
عملت كشف بالأصناف الناقصة وخرجت من المكتب، وقفت في المخزن وبصّيت يمين وشمال، ملقتش اللي اسمه سعيد دَه في الناس الموجودة، أخدت بعضي ورُحت على فرد الأمن اللي على باب المخزن وقُلت له:
-مشوفتش الأستاذ سعيد؟
-الأستاذ سعيد خرج من شوية وقال إنه رايح المخزن التاني وراجع بعد نُص ساعة.
شكرته ورجعت قعدت في مكتبي، وبعد شوية لقيت الأستاذ سعيد داخل المكتب وبيطلب منّي الكشف، ناولته الورقة وقرأ فيها شوية، بعدها بَص لي وقال:
-هوَّ دَه الشغل، تسلم إيدك.
-تأمرني بحاجة تانية يا أستاذ سعيد؟
-الأمر لله يا...
-اسمي حسين.
-عاشت الأسامي يا سِحس.
بعدها طبَّق الكشف في إيده وبدأ يتحرَّك من مكانه، لكن قبل ما يخرج من الباب وقف والتفت ناحيتي وقال:
-بالحق، عايزك بعد ما الشغل يخلص تعمل مطابقة بين الكميات اللي في الدفتر والكميات اللي على أرض الواقع، مُش كلها أكيد، يعني حاول تختار كام صنف كده وتشوف الدنيا ماشية مظبوط ولا في حاجة غلط، ولو لقيت حاجة متنساش تبلغني بُكره الصبح.
في اليوم ده قعدت في المخزن بعد ما وقت الشغل انتهى، الدنيا كانت ليل، ومكانش في حد موجود غير فرد الأمن اللي قاعد في مكانه برَّه وموارب الباب لحد ما أخلَّص اللي ورايا وأمشي.
مسكت دفتر من الدفاتر وبدأت أختار أصناف عشوائية وأطابق رصيدها بالكميات اللي موجودة في الواقع، الدنيا كانت تمام ومحلاظتش إن في شيء غلط، بَس مع الوقت بدأت أسمع صوت حد بيتحرَّك ورايا، أول ما سمعت الخطوات افتكرت إن فَرد الأمن جاي يستعجلني، ولسَّه بلتفت ورايا عشان أقول له إني قرَّب أخلَّص لقيت الدفتر بيُقع من إيدي.
جسمي كان بيتنفض وكأني فرخة مدبوحة، وده لأن عيني لمحت نُقط دَم في الأرض ورايا، ولمَّا مشيت بعيني مع الدَّم عشان أوصل لمصدره؛ لقيتني بلمح أبويا واقف عند أول نقطة دَم موجودة.
كان بنفس المنظر اللي مات فيه وظهر لي فيه المرَّة اللي فاتت، الدم نازل من بوقّه، ولحد هنا أدركت إني مش بتخيَّل ولا بهلوس، أبويا كان ظاهر قدامي بجد، أو جُثِّته عشان أكون دقيق في كلامي، بَس المُختلف المرَّة دي إن جثته كانت بتتحرَّك لأني لقيتها بتقرَّب مني، زي ما يكون تمثال مربوط بحبل وفي شخص بيسحبه من مكانه، لأول مرة أحِس بخوف بالشكل دَه، لدرجة إني عجزت عن الحركة أو الهروب من الموقف اللي أنا فيه، وبعد ما بقى بيني وبينه خطوة لقيته بيتكلم وبيقول لي:
-مُش عاوزك تنسى إني اتقتلت، أنا مُش مختلس يا حسين، التُّهمة كانت غطا عشان يداري على حكاية كبيرة، أوِّل مرَّة أصدَّق إن اللي بيموت ظلم روحه مش بترتاح، مُش قادر أمنع نفسي من الظهور قدامك، حاولت ومقدرتش، أنا خرجت من الدنيا ومعادش بيربُطني بيها، اللي مُتحكِّم دلوقت هو قريني اللي مُش عاوز يسيب تاري، وفي نفس الوقت مش عاوز يسيبني مرتاح لحد ما اللي قتلوني ياخدوا جزاءهم.
-أنت مطوِّل يا أستاذ حسين؟
كان صوت فَرد الأمن اللي خلاني أبُص ناحيته، كان واقف قريِّب مني، رجعت بعيني للمكان اللي أبويا كان واقف فيه وملقتش له أثر، بَس اللي حصل في الصالة اتكرر من تاني، أثر الدَّم كان لسَّه في الأرض، زي ما يكون بيسيب أثر وراه عشان يفهِّمني إن اللي بيحصل معايا واقع مُش تخاريف، وعشان فَرد الأمن ميلاحظش إن في حاجة غلط، رديت عليه وكأن كل شيء طبيعي وقُلت له:
-أنا خلَّصت شُغل وخارج دلوقت.
خرجت من المخزن وأنا بفكر في اللي حصل، ظهور أبويا للمرة التانية خلاني أتأكد إن في شيء غامض، مديت إيدي في جيبي عشان أطلَّع تليفوني وأرِن على مُراد، لكني سمعت صوت رنة تليفوني، ولما بصيت فيه لقيته سبقني واتصل بيا، وبدون تردد رديت عليه:
-أنت فين يا مُراد؟
-على القهوة يا حسين، فينك؟
-لسَّه خارج من المخزن.
-مخزن إيه اللي بتتكلم عنه الشغل خلصان من بدري.
-متأخرتش بمزاجي، وعلى العموم أنا راجع في الطريق وجاي على القهوة، لمَّا أشوفك نتكلم.
يادوب مسافة الطريق وكنت على القهوة، وبعد ما قعدت وأخدت نفسي من الطريق سألت مُراد:
-مين سعيد اللي بيشتغل مع أبو فؤاد ده؟
بمجرَّد ما سألت مُراد لقيته عَقَد وشُّه وقال:
-لزومها إيه السيرة دي، ولحقت تعرفه من أول يوم؟
-مالك قلبت وشَّك ليه أوِّل لما جيبت سيرته!
-لانه إنسان لَزَج ودمُّه واقف، مفيش حد في الشغل بيحبه، بَس أبو فؤاد بيعتمد عليه أكتر من أي حد، عشان بيحشُر نفسه في كل كبيرة وصغيرة وعامل نفسه فاهم في كل حاجة، لكن في الحقيقة هو إنسان مفيش حد بيطيقه.
-لقيته داخل عليا المكتب وبيطلب مني أعمل له كشف بأصناف المكرونات الناقصة، وقال لي إنه دراع أبو فؤاد اليمين، بَس للأمانة مبلعتوش وحسيت إن كلامه محشور في زوري.
-خلاص بقى سيبك من السيرة دي، قول لي؛ إيه اللي أخَّرك في المخزن؟
-أصله طلب منّي أعمل شغلانة كده بعد ما الشغل يخلص، بَس ما علينا، أنا مش عاوزك عشان الحكاية دي.
-أومال عاوزني في إيه يا حسين؟
-أنا بشوف أبويا يا مُراد؟
-كلام إيه اللي بتقوله دَه!
-أبويا ظَهر لي مرَّة في الشقة ومرَّة تانية النهارده في المخزن، وفي المرتين قال إنه اتقتل، بَس المرَّة دي قال إنه مَختلَسش، وقال كمان إن قرينه مش مخليه مرتاح في نومته وإنه هيفضل ورا الحكاية لحد ما اللي قتلوه يتعرفوا.
-كده الكلام اختلف يا صاحبي.
-قصدك إيه؟
-قصدي إن اللي بيحصل معاك واقع مش تهيؤات، وبما إن اللي بيموت مش بيرجع، فأحب أقول إن اللي بيظهر لَك ده هو قرين أبوك فعلًا، وأول ما جيبت سيرة القرين فهمت اللي فيها، خصوصًا إني ياما سمعت وقرأت عن حوادث مات فيها ناس وقرينهم ظهر بعد ما ماتوا.
-أنا في حيرة ومش عارف أتصرف إزاي، ظهور أبويا بيحُط على اكتافي مهمة صعبة، وكأنه بيقول لي عايزك تاخد حقي، بَس لو كلامك وكلام قرين أبويا ده صحيح؛ إزاي هوصل للي قتل أبويا وآخد حقه، ساعتها هكون برتكب جناية.
-مُش شرط ترتكب جناية عشان حق أبوك يرجع، كفاية إنك تعرف مين اللي قتله ويتقدِّم للعدالة.
-إزاي هقدِّمه للعدالة وأنا مفيش معايا دليل ضده، وهعرفه إزاي أصلًا إذا كانت التحقيقات نفسها موصلتش لحاجة.
بعد كلامي دَه لقيت مُراد بيبُص لي بصة طويلة قال بعدها:
-القرين يا حسين هو اللي هيخليك توصل.
رديت على كلامه الغريب وقُلت:
-يعني عاوزني أنتظر القرين اللي بيظهر لي لما في مرَّة يقول لي اسم اللي قتل أبويا، وبعدها أطلع على قسم الشرطة وأبلَّغ، ولما يسألوني في دليل اتهامك أقول لهم أصل القرين اللي بيظهر لي هو اللي بلَّغني.
لمَّا قُلت كده لقيت مُراد بيبتسم وبيقول:
-الموضوع مش كده يا صاحبي، ظهور القرين مُنبِّه، يادوب تعرف من خلاله إن في حاجة مُش طبيعية، لكن لأن كل شيء لازم يبقى منطقي، فكُل اللي عليك إنك تاخد ظهور القرين كبداية للطريق اللي هتمشي فيه لحد ما توصل للقاتل، ولمَّا توصل له هتلاقي معاه الدليل اللي يدينه وتقدر تبلَّغ عنه، الدليل اللي هيوصَّلك للقاتل هو نفسه اللي هيكون دليل إدانته، أصلها بَكرة خيط يا صاحبي، بمجرَّد ما توصل لطرفها هتكُر في إيدك.
خلصنا كلامنا ورجعت الشقة وأنا حاسس إن الحكاية بتتعقد أكتر من الأول، ومُش هنكر إني لقيت جوايا رغبة في الانتقام لأبويا، دَه لو صدق كلام القرين يعني زي ما مُراد قال.
في الطريق حسيت بجوع شديد، وبمجرد شعوري بالإحساس ده لقيت نفسي قريِّب من عَم عزيز الطعمجي، عَنده مطعم صغيَّر ومن وقت للتاني بروح أشتري منه سندوتشات، بَس مروحتش عنده من قبل حادثة أبويا، أخدت بعضي ورُحت على هناك، ولمَّا وصلت طلبت سندوتشين طعمية وقعدت أنتظر لحد ما عم عزيز حط طبق السندوتشات قدامي، ساعتها رفعت وشي ناحيته وقُلت له:
-تسلم إيدك يا عم عزيز.
-بالهنا يا أستاذ حسين، يا ابن الغالي الله يرحمه.
بدأت آكل في السندوتشات وأنا سرحان، عيني فضلت رايحة جاية مع عم عزيز لحد ما بدأت ألاحظ حاجة غريبة، وهي إن عم عزيز كل ما بيكون ضهره ناحيتي بيكون أقرب في الشبه من أبويا، ولأني كنت مقتنع إن كل دي هلاوس؛ كبرت دماغي لأني عارف ومتأكد إن اللي قدامي هو عم عزيز، لحد ما خلَّصت أكل وقُمت من مكاني عشان أحاسب وأمشي، وفي اللحظة دي لقيت عم عزيز بيلتفت ناحيتي وبيسألني:
-أجيب لَك حاجة تاني يا أستاذ حسين؟
حسيت إن رجليا هربت من تحتي فجأة، قعدت على الكرسي من تاني وأنا مذهول، الصوت كان صوت أبويا، ولمَّا بصِّيت في وِش عم عزيز لقيت نفسي شايف جُثة أبويا، وساعتها قال لي:
-خلاص يا حسين، أنت بقيت قُريِّب أوي.
الموقف كان أكبر من طاقتي، وده سبب إني اتفزعت ورجعت بالكرسي لورا عشان أهرب، لدرجة إني وقعت على ضهري، وساعتها لقيته بيقول لي:
-مالك يا أستاذ حسين؟
كل حاجة اتبدلت، صوت أبويا اتحوِّل بقُدرة قادر ورجع لصوت عم عزيز، حتى عم عزيز نفسه رجع لطبيعته وصورة جثة أبويا اختفت، كل ده حصل في لحظة وهو بيمِد إيده عشان يساعدني أقوم من الأرض، وفي اللحظة دي بلعت ريقي وقُلت له:
-أنا كويس، جايز بس أكون مُرهق من الشغل.
قُمت وحاسب وأخدت بعضي ورُحت على الشقة، دخلت واترميت على كنبة الأنتريه، من كُتر الإرهاق اللي كنت فيه غمَّضت عيني، النوم أخدني ومحسِّتش بحاجة حواليا، لحد ما فتحت عيني على صوت عربية ظهر فجأة، كأنها بتجري في الشارع قدام البيت، وبعد ثواني سمعت صوت اصطدام.
عيني كانت مزغللة وأنا عمال التفت حوالين نفسي، تفاصيل الصالة مكانتش واضحة، وبرغم كده كنت بشوف خيال في كل نقطة عيني كانت بتقع عليها، ومكنتش محتاج حاجة عشان أعرف إن الخيال ده هو خيال جثة أبويا.
لمَّا الزغللة راحت من قدام عيني كل حاجة رجعت طبيعية، بَس كان جوايا يقين إن اللي كان قدامي جثة أبويا، أو قرينه زي ما بقيت عارف، وهو برضه اللي خلاني أشوف عم عزيز الطعمجي في شكل جثة أبويا.
لما ربطت الخيوط ببعضها سمعت خبط في أوضة أبويا، وبالمناسبة، الأوضة مقفولة من بعد ما أبويا اندفن ومتفتحتش، قلبي اتقبض لمَّا سمعت الصوت جوَّاها، ولأني بقيت حاسس إن قرين أبويا بيستدرجني عشان أنتقم، أخدت بعضي ومشيت ناحية الأوضة وأنا بقاوم الخوف اللي جوايا. لمَّا دخلت ملقتش حد جوَّه، الشيء الغريب اللي لاحظته هو إن درفة من دُرف الدولاب كانت متواربة وبتتحرَّك، ماكنتش فاكر الدرفة كانت مقفولة ولا متسابة على وضعها ده، بَس حركتها لفتت نظري، قرَّبت من الدولاب ومديت إيدي فتحت الدرفة، ملقتش فيها شيء غريب أو مُلفت للنظر، لكن عيني وقعت على الشنطة السامسونايت القديمة بتاعة أبويا، ولحد هنا سألت نفسي، إشمعنى الدرفة اللي فيها الشنطة هي اللي متواربة وبتتحرَّك.
بمجرَّد ما سألت نفسي السؤال ده؛ افتكرت عم عزيز الطعمجي لمَّا ظهر لي في هيئة قرين أبويا، وافتكرت كلامه لما قال لي إني بقيت قُريِّب، إحساس جوَّايا قال لي إن الشنطة فيها سِر، وإن اللي استدرجني من وقت ما فتحت عيني على صوت الحادثة لحد ما وصلت للشطنة هو القرين.
حاولت كتير عشان أفتح الشنطة لأنها كانت مقفولة برقم سري، جرَّبت أرقام كتير عشان أحاول أفتحها، تاريخ ميلاد أبويا وتاريخ ميلادي ورقم أبويا الوظيفي في المصنع قبل ما يسيبه، لكن مفيش رقم كان بيظبط معايا، آخر محاولة عملتها هو إني حطيت التاريخ اللي أبويا استقال فيه، ساعتها اتفاجئت إن الشنطة بتتفتح، ولحد هنا بقيت متأكد من إن الشنطة دي فيها سِر يخص اللي حصل لأبويا، وإلا مكانش ربط رقمها السري بتاريخ استقالته.
فتحت الشنطة وبدأت أقلَِب في الأوراق اللي فيها، مكانش فيها حاجة أكتر من أوراق عادية تخُص شقتنا وتخُصنا، بَس بعد تفتيش طويل في الشنطة، اكتشفت إن فيها جيب سرِّي، ولمَّا فتحته لقيت فيه ظرف مقفول، فَتحته وطلَّعت منه شوية أوراق، لما بدأت أقرأ فيهم حسيت بذهول، لأن الأوراق كانت صور من عقد صفقة مشبوهة حصلت في المصنع، معرفش أبويا قدر يوصل لأوراقها إزاي، ولحد هنا بقى عندي يقين إن تهمة الاختلاس اتلفَّقت لأبويا بالكذب، وإن الحادثة اللي حصلت له ما هي إلا جريمة قتل مقصودة.
أخدت الظرف ورجَّعت الشنطة في مكانها، وكنت بسأل نفسي سؤال واحد، إيه علاقة أبويا بالكلام دَه كله وإيه اللي يجيب الأوراق دي في طريقه!
لقيت نفسي غصب عني برِن على مُراد، ساعتها رَد عليا بصوت كله نوم وقال:
-مالك يا حسين؛ أنت كويس؟
-أنا وصلت لسبب موت أبويا يا مُراد.
بمجرَّد ما قُلت له الكلام ده صوته اتغيَّر والنوم طار من عينيه وقال لي:
-لحظة بس كده عشان كُنت نايم، بتقول وصلت لسبب موت أبوك إزاي؟
-زي ما بقول لَك كده، معايا أوراق بتقول إن الحادثة مقصودة.
-طيِّب بقول لك إيه، الأوراق دي مينفعش تخرج بيها برَّه البيت، مسافة السكة وهكون عندك.
مفيش ربع ساعة ولقيت الباب بيخبَّط، ولما فتحت لقيته مُراد، حكيت له عن اللي حصل في المطعم وعن الطريقة اللي وصلت بيها للشنطة، كل ده وهو بيقرأ في الأوراق والصدمة باينة على وشُّه، وبعدها قال لي من غير ما يبعِد عينه عن الورق:
-مليون في الميِّه محدّش يعرف إن الأوراق دي موجودة هنا، وإلا كان زمانهم طربقوا الشقة فوق بعضها لحد ما يوصلوا لها.
-اللي نفسي أعرفه إيه علاقة أبويا بالكلام ده؟
-أبوك كان في الحسابات، والأوراق دي تخُص صفقة، وصفقة يعني فلوس، يعني بشكل أو بآخر هيكون ليها علاقة بالحسابات، بَس اللي قادر أستنتجه لحد دلوقت إن الأوراق دي وقعت في إيد عم رشاد الله يرحمه بالصدفة ومحدش يعرف بيها، وده دليل على إن تهمة الاختلاس كانت مُدبَّرة، يعني من الآخر، في حد شَم خبر إن أبوك أخد خبر باللي بيدور تحت الترابيزة في المصنع، عشان كده حَب يطيَّره من مكانه، ودي كانت خطوة أولى، وعشان يضمنوا سكوتة للأبد دبَّروا الحادثة وقتلوه، الحكاية عاملة زي لعبة التنس الطاولة، تحدف الكورة لفوق وتبعدها؛ عشان تعرف تضربها بكل قوتك بالمضرب اللي في إيدك.
-أنا اتصلت عليك قبل ما أكمِّل قراءة الأوراق، ولحد دلوقت مش عارف إيه نوع الصفقات المشبوهة اللي بتدور تحت الترابيزة.
-حبوب مخدِّرة، في ناس في المصنع بيتاجروا، واللي فهمته من الأوراق إن الحبوب بتطلع ضمن بعض الطلبيات لناس معيَّنة، طبعًا عقود زي دي بتكون مؤمَّنة وفيها أسماء وهمية عشان لو وقعت في إيد حد، عشان كده حالات التلبُّس ضرورية عشان يثبتوا التهمة على اللي بيتاجر.
-والعمل إيه؟
-هو طريق واحد مفيش غيره، لازم نوصل للأشخاص اللي بتتاجر والناس اللي بتساعدهم، والأوراق دي هتكون المصيدة اللي هيقعوا فيها.
احتفظت بالأوراق في مكانها زي ما مُراد طلب منّي، وتاني يوم الصبح خرجت في ميعاد شغلي عادي، وفي المخزن، لقيت مُراد داخل عندي المكتب وهو بيقول لي:
-بقول لك إيه، أنا عندي مصلحة عايز أطلعها والمفروض إني أروح أستلم طلبية المكرونة اللي سعيد طلبها، إيه رأيك تطلع مكاني.
استغربت كلامه وقُلت له:
-والمخزن أسيبه لمين؟
-دي كلها ساعتين زمن، أنا هظبَّط فرد الأمن لو في حاجة دخلت أو خرجت يبقى يكتبهالك، جمِّد قلبك كده متبقاش خِرع، أنا هظبَّط لك الدنيا.
طلعت مع سواق العربية اللي طالعة تجيب الطلبية، ومش محتاج أقول إننا كنا طالعين المصنع اللي المفروض كنت أتعيِّن فيه كواحد من أبناء العاملين، وفي المخازن هناك، قعدت على كرسي في جنب أنتظر العربية لحد ما تتحمِّل، وفي الوقت ده؛ لمحت واحد كبير في السن، ملامحه مكانتش غريبة عليا، وبعد شوية افتكرت إنه كان بيزورنا في البيت زمان على فترات بعيدة وأنا صغيَّر، وافتكرت إن اسمه عم علي.
عيني كانت رايحة جاية معاه، خصوصًا وإن هدومه بتقول إنه عامل في المخازن، وعلى حد علمي إنه كان في الحسابات مع أبويا، وفضلت على الحال ده لحد ما لقيت عينه جَت عليا وثبتت؛ زي ما يكون بيحاول يفتكرني، ومفيش ثواني لقيته بدأ يقرَّب مني وقال لي:
-أنت حسين ابن رشاد الله يرحمه؟
-وأنت عم علي اللي كان بيزورنا زمان؟
-ما أنت لسَّه فاكر أهو، طمني عليك يا ابن الراجل الطيب.
-أنا بخير الحمد لله.
معرفش ليه لقيت نفسي ببُص حواليا قبل ما أسأله:
-أنت تعرف حاجة عن استقالة أبويا يا عم علي؟
في اللحظة دي وشُّه جاب ألوان وقال لي:
-لأ أنا معرفش حاجة، أنا شبِّهت عليك ولما عرفتك حبِّيت أطمن إنك بخير، عن إذنك عشان عندي شغل.
سابني ومشي بعد ما قال الكلمتين دول، في الوقت ده العربية كانت اتحمِّلت والسواق ندَه عليا، مشينا ورجعنا على المخزن ونزلنا الطلبية ودخلت قعدت في مكتبي، مكنتش بعمل حاجة غير إني بفكَّر في ملامح عم علي اللي اتغيَّرت فجأة بمجرد ما سألته عن استقالة أبويا، وفي نفس الوقت لفت انتباهي حاجة تانية، إيه اللي يخليه يشتغل في المخازن وهو أصلًا كان في الحسابات، وفي عز تفكيري سمعت صوت مُراد بيقول لي:
-ما أنت رُحت وجيت زي العفريت أهو، اتأخرت عليك ولا في حاجة حصلت؟
-كل حاجة تمام، بَس هناك لاحظت حاجة غريبة.
-حاجة إيه بالظبط!
حكيت له عن اللي حصل وساعتها قال لي:
-عمك علي ده عامل زي الشنطة السامسونايت اللي لقيت فيها الأوراق اللي بالك فيها، هتلاقي جوَّاه سِر، وشُغله في المخزن أكيد مُش بمزاجه، في حد برضه حاول يبعده عن المشهد وشاله من مكانه.
اليوم فات ورجعت على الشقة، وبعد ما قعدت في الصالة والتفكير كان بيعصُر في مخي، سمعت الباب بيخبط، فتحت وأنا متوقع إنه مُراد، لكني متوقعتش إني هشوف قدامي عم علي!
-مش هتقول لي اتفضل؟
-لأ طبعًا ميصحَّش، اتفضل ادخل، ثواني هعمل شاي.
-مفيش داعي، أنا جاي أقول لك إني مكانش ينفع أجاوب على سؤالك في الشغل، الحيطان ليها ودان والعصافير كتير، وأنا راجل لما حسيت بالخطر سيبت مكاني وبعدت عن طريقهم واشتغلت عامل في المخزن، أصل وقتها كان ورايا كوم لحم بصرف عليهم، ومكنتش أقدر أسيب الشغل، ومن وقتها وأنا في مكاني.
-هُما مين دول يا عم علي وإيه الحكاية؟
-مُش هقدر أقول أسماء، بَس عاوزك تعرف إن كام شخص من الكُبار في المصنع بيتاجروا في الممنوع، أوراق الصفقات دي بتعدِّي من تحت الترابيزة، أنا عرفت الكلام ده قبل أبوك الله يرحمه، عشان كده أخدت جنب وبعدت عن الكلام ده وعملت طلب نقل للمخازن، اشتغلت فترة أمين مخزن وبعدها حصلت معايا مشكلة وبدل ما أمشي خلوني عامل، لكن فضلت أتابع من بعيد لبعيد، بدون ما أفتح بوقي، لحد ما بالصدفة صفقة من الصفقات دي ورقها وقع قدام أبوك، طلبية المكرونة اللي كانت طالعة كان مدسوس فيها حبوب مخدرة، بَس أبوك كان زكي، محصلش منه أي رد فعل، وعشان الناس دي بتشُك في صوابع إيدها، شكّوا إن أبوك عرف عنهم حاجة، عشان كده دبَّروا الاختلاس، في اليوم ده سيستم الكاميرات في المصنع اتعطَّل وجابوا حرامي خِزَن، دخل المصنع ووصل للخزنة اللي في عهدة أبوك وفتحها وأخد منها مبلغ، المبلغ مكانش كبير عشان ميحصلش شوشرة وينكشفوا، وبما إن مفتاح الخزنة مع أبوك شال الليلة واتهموه بالاختلاس، وأجبروه على الاستقالة في مقابل إنهم يقفلوا الموضوع، بَس بعدها عرفت إنهم دبروا الحادثة اللي مات فيها، أبوك اتقتل يا حسين، أنا عارف إن كلامي مش دليل كافي، لكن لو في يوم قدرت توصل لدليل مادي متنتظرش، خُد حق أبوك.
بمجرَّد ما سمعت الكلام ده الدنيا دارت بيا، غمضت عيني وفتحتها عشان أستوعب اللي سمعته وأسأله إيه سبب سكوته على كل ده، لكن اتفاجئت إني لوحدي، عم علي كان فَص ملح وداب، ولحد هنا أدركت إني كنت واقف قدام قرين أبويا، اللي ظهر لي المرة دي في شكل جديد عشان يخليني أعرف معلومة جديدة.
رفعت تليفوني ورنيت على مُراد، للمرة التانية اللي بزعجه فيها بسبب اللي بيحصل معايا، لكن زي المرة اللي فاتت، النوم طار من عينيه بمجرد ما سمع اللي حصل وقال لي:
-معنى الكلام ده إن أبوك الله يرحمه أخد صور من ورق الصفقة المشبوهة بدون ما حد يعرف.
-مفيش تفسير غير كده.
-ده من حُسن حظنا عشان يبقى معانا دليل يخلينا نرجَّع حق الراجل الغلبان ودمُّه اللي راح هدر.
في الليلة دي مجاليش نوم، كنت حاسس إني بقيت قريِّب جدًا من اللي قتل أبويا، برغم إني لسَّه مُش عارف أتهم مين بالظبط، بس إحساس جوايا كان بيقول إني خلاص قرَّبت.
أول ما النهار بدأ يطلع خرجت من الشقة، الجوع كان جاب أخره معايا، ومُجبرًا لقيت نفسي رايح مطعم عم عزيز، مكانش حد لسَّه موجود في المطعم غيري، قعدت على نفس الترابيزة وطلبت فطار، ولمَّا بدأ يحُط الأكل قدامي سألني:
-كان مالك المرَّة اللي فاتت يا حسين؟
-مفيش يا عم عزيز، كُنت مُرهق شوية.
-أنت كنت خايف، وخوفك ده فكَّرني بواحد أول مرة كنت أشوفه، لمَّا الوقت اتأخر وجيت أقفل لقيته راكن بالعربية بتاعته جنب المطعم، ولما سألته إيه اللي موقَّفك هنا لقيته اتلجلج ووشُّه جاب ألوان، وبعدها قال إن واحد عاطيه ميعاد ينتظره في المكان ده واتأخر عليه، وبعد ما قال لي كده أخد عربيته ومشي.
-الكلام ده كان إمتى بالظبط يا عم عزيز؟
-ده قبل حادثة أبوك الله يرحمه بساعة تقريبًا.
-أومال محدش يعني سمع منك الكلام ده بعد الحادثة!
-وإيه علاقة ده باللي حصل، واحد كان راكن قدام المطعم ولما سألته عن سبب تواجده قال إنه منتظر حد وبعدها مشي، والحادثة حصلت بعدها بساعة، يعني زمان الشخص ده روح بيتهم ونام.
الأكل وقف في زوري، معرفش ليه حسيت إن اللي بيحكيه له علاقه بالحادثة، فضلت وراه عشان أعرف منه معلومات أكتر، ومخرجتش منه غير بمعلومتين، العربية الجيب البيضا اللي كان راكبها، وإن في علامة مميزة عبارة عن جرح جنب حاجبه الشمال، ولما سألت عم عزيز إزاي لمح الجرح والوقت كان متأخر والدنيا ضلمة، قال لي إن الشخص ده كان فاتح نور العربية عشان كان بيقلِّب في أوراق معاه، وإنه قدر يلاحظ الجرح ده في النور وهو بيكلمه.
خرجت من المطعم لأن وقت الشُغل كان قرَّب، طول الطريق كنت بفكر في كلام عم عزيز وبسأل نفسي؛ يا ترى مين الشخص دَه، ويا ترى إيه سبب وجوده في المنطقة قبل الحادثة.
لمَّا وصلت المكتب لقيت مًراد في انتظاري، حكيت له عن كلام عم عزيز، وساعتها قال:
-المشكلة إن عم عزيز كطعمجي مش مركب كاميرات، المنطقة هناك عامية ومفيش حاجة نقدر نرجعلها نتأكد، وارد جدًا الشخص ده يكون هو اللي خبط عم رشاد وهو راجع.
قاطعت كلامه وقُلت:
-أو جايز كان منتظر الوقت اللي بيرجع فيه عشان يخبطه، ولما عم عزيز أتكلم معاه غيَّر مكانه ووقف في مكان متداري لحد اللحظة المناسبة.
مردِّش على كلامي لأن الأستاذ سعيد دخل علينا المكتب، وفي اللحظة طلب من مُراد يطلع يجيب طلبية وقال له إن أبو فؤاد مستعجل عليها، ده غير إنه طلب منّي أجهّز كشوفات الأصناف الناقصة، ولما خرج من المكتب وقفت مبلِّم، حتى مُراد لاحظ ده وسألني:
-واقف مبلِّم ليه يا مُراد؟
-سعيد.
-ماله سعيد؟
-عنده نفس العلامة المميزة، جرح جنب حاجبه الشمال.
-عارف كلامك ده معناه إيه؟
-معناه إني صدقت كلام القرين لما قال إني قريّب جدًا، ومش مصدَّق إني ألاقي طرف خيط بالسرعة دي.
-بتتكلم وكأنك خلاص اتأكدت إن اللي خبط عم رشاد هو سعيد.
-معنديش تأكيد؛ بس تقدر تفسَّر الربط بين كلام عم عزيز والعلامة المميزة اللي في سعيد، ولو هو فعلًا؛ تقدر تعطيني تفسير لوجوده في منطقتنا في وقت متأخر زي ده، وفي التوقيت ده بالذات.
-معنديش رد خصوصًا إنه من منطقة تانية خالص، بَس نتأكد إزاي؟
-أكيد في طريقة تخلينا نتأكد.
بعد ما قلت كده مُراد سابني ومشي عشان يشوف شغله، أما أنا فبدأت أشوف شغلي بشكل طبيعي، الاختلاف الوحيد هو إني كنت بركز مع سعيد كل ما بيظهر، لحد ما الليل دخل والشغل خلص، بعدها أخدت بعضي وطلعت على مطعم عم عزيز، وهناك فتحت تليفوني على صورة لسعيد صوَّرتها بدون ما ينتبه، وساعتها قطعت الشك باليقين لما عم عزيز بَص فيها شوية وقال:
-هو ده الشخص اللي كان في العربية ليلتها.
خرجت من المطعم وأنا معايا طرف خيط مهم، ساعتها بدأت أربط بين أبو فؤاد وبين طلبيات المكرونة اللي بتيجي من المصنع، وبقيت على يقين إن في شيء مش مظبوط، واللي أكِّد إحساسي أكتر، هو أني لمحت عم علي، كان واقف في مكان قريِّب من مطعم عم عزيز، ولما حَس إني لمحته حاول يداري نفسه، بَس أنا كملت في طريقي وعملت نفسي مش واخد بالي، ولحد هنا، حسيت إن في طرف جديد دخل في اللعبة، وإن عم علي ده هيطلع له علاقة باللي حصل.
وصلت الشقة ورنيت على مراد، ولما حكيت له عن اللي عملته قال لي:
-يا ابن اللعيبة، ده أنت طلعت داهية يا حسين.
-أنا مش بكلمك عشان تمدح فيا، أنا عاوز أعرف هنعمل إيه.
-الموضوع عايز مخمخة.
قطعت مكالمتي معاه لما باب الشقة خبَّط، ولما فتحت لقيته عم علي، بلعت ريقي وأنا بفتكر ظهوره واختفاؤه قدامي المرة اللي فاتت لما افتكرت إنه جاي يطمن عليا، وساعتها سألني:
-شُفت عفريت ولا إيه يا حسين؟
-لأ أبدًا، بَس مش متوقع حد ييجي في الوقت ده.
-طيِّب عاوزك في كلمتين.
قُلت بتردد:
-اتفضل ادخل.
لمَّا دخل وقعد بدأ يقول لي:
-أنا مقبلتش بمهنة عامل في المخازن من فراغ، أنا قبلت ده عشان أخدم بلدي، وأبقى عينها اللي هترشد عن عصابة كبيرة بتتاجر في الحبوب المخدرة، وللأسف كل أوراق الصفقات دي مبتشوفش النور، وعارف كويس إن أبوك مات مقتول بسبب إنه شَم خبر صفقة من صفقاتهم، أنا عايز الصورة اللي أنت كنت بتخلي عزيز الطعمجي يتعرف عليها.
الفار لعب في عبي وسألته:
-معلش يعني وأنا إيه يثبت لي إنك مُرشد أو مع الحكومة، ليه متكونش متسلَّط عليا عشان تعرف أبويا ماسك حاجة عليهم ولا لأ.
-وهو أنا لو زي ما بتقول كنت هاجي لحد هنا برجلي؟ اسمع يابني، أنا كنت زميل أبوك وصديقه، ولعلمك، أنا شُفت قرينه وطلب منّي أساعدك عشان تجيب حقه، وحق أبوك ده هيكشف الستار عن عصابة بننتظر بين لحظة والتانية نمسك عليهم دليل واحد.
بمجرَّد ما جاب سيرة القرين لقيت نفسي بقتنع بكلامه، لأني ببساطة بشوف قرين أبويا، وأعتقد لو بيحاول يخدعني مش هييجي في باله سبب زي ده عشان يقنعني بيه، عشان كده فتحت تليفوني على الصورة وقُلت له:
-تعرف الشخص ده؟
-ده سعيد اللي بيشتغل مع أبو فؤاد، دراعه اليمين، وبيتردد على مخازن المصنع في أوقات متأخرة مع الناس اللي بنحاول نمسك عليهم دليل.
-معلش يعني عندي ملاحظة، طالما بيتردد على المخازن في أوقات زي دي ومع الناس اللي تقصدها، متقبضش عليهم ليه؟
-لأن كل الطلبيات اللي شكيت فيها وبلغت عنها كان بيتنصب كمين في طريقها، بس للأسف الكماين مكانتش بتلاقي حاجة، عشان كده عايز أعرف لو أبوك الله يرحمه كان مخبّي ورق أو أي دليل يساعدنا.
في اللحظة دي افتكرت الأوراق اللي في الشنطة، دخلت جبتها وطلعت، ولما أخدها مني وبدأ يقرأها قال لي:
-من زمان وأنا نفسي ألاقي أوراق من دي.
-معلش بس عندي استفسار، هتعمل إيه بالأوراق دي؟
-أبوك احتفظ بنسخة من الأوراق من غير ما حد يعرف، بَس مفيش حاجة بتحصل في الدنيا دي بدون ترتيب، لأن الأوراق دي هتكون دليل إدانة قوي لما الجماعة دول يقعوا.
بعد اللي حصل بأسبوع واحد، تم القبض على أبو فؤاد وسعيد، ومعاهم كذا شخص من المصنع، من بينهم مسئول التوظيف اللي قال لي بسخرية إن قانون توظيف أبناء العاملين مينفعش يتطبَّق على ابن واحد مختلس، ولو عاوزين تعرفوا الحكاية تمَّت إزاي، فأنا هحكي لكم باختصار.
الموضوع تم بالتنسيق بيني وبين مُراد وعم علي، اللي اتضح في الآخر إنه مُرشد وبيراقب الجماعة دول من سنين طويلة عشان يقعوا، أصل في يوم لاحظت إن الأستاذ سعيد بيتردد على المخزن بطريقة مبالغ فيها، ده غير إنه كان بيتكلم مع واحد في الشغل على جنب، والحكاية دي اتكررت كذا مرة خلال اليوم، ولما الشغل انتهى، عملت إني خارج من المخزن، وفي غفلة من فرد الأمن دخلت المخزن وكان مُراد معايا عشان يومها حسينا إن في شيء مش مظبوط، استخبينا في مكان كنا متأكدين إن مفيش حد هيلمحنا فيه، وبعد ما باب المخزن الكبير اتقفل بشوية، سمعنا صوت الباب الخلفي بيتفتح، وفي الوقت ده لمحنا الأستاذ سعيد داخل ومعاه نفس الشخص اللي كان بيتكلم معاه، ساعتها الصدفة خدمتنا ووقفوا في مكان قريب من المكان اللي إحنا فيه، وسمعنا الاستاذ سعيد بيقول له:
-الساعة اتنين صباحًا، هتنتظر على بداية الشارع اللي فيه مخازن المصنع، العربية اللي هتكون محملة طلبية المكرونة هتتحرك في الوقت ده، السواق هيقف جنبك والتَّباع اللي على العربية هيحدف الكرتونة اللي فيها البضاعة في العربية عندك، بعدها هيسيبك ويمشي، وأنت عليك تاخد الكرتونة وتغيَّر خط سيرك اللي متفقين عليه، إحنا بيطلع لنا في كل خرابة عفريت، كل طلبية بنطلع بيها في الوقت ده بيقابلها كمين، ومش عارف مين اللي جوَّه المصنع بيبلغ والكمين بينتظر في الطريق، بَس إحنا كل مرة بنهرب بطريقة شكل لحد ما نعرف مين اللي راصدنا جوَّه.
بعد ما الأستاذ سعيد خلَّص كلامه خرجوا من نفس الباب اللي دخلوا منه، ولحد هنا عرفت سبب إن الكماين مبتمسكش حاجة معاهم، وده لأنهم بيشتغلوا بطريقة بُص العصفورة، العربية اللي فيها الطلبية بتدخل الكمين بعد ما البضاعة تكون اتشالت منها، ساعتها كلمت عم علي وبلَّغته، وهو قام بدوره، وبالفعل، الكمين اللي اتنصب للعربية اللي شايلة الطلبية، اتنصب زيه كمين عند العربية اللي كانت منتظرة، بَس كمين خفي عشان ميغيروش في خطتهم، ومع حالة التلبس والأوراق اللي كانت معايا الدنيا جابت بعضها وكله وقع.
بس المفاجأة إن أبو فؤاد طلع منها، لأن التحقيقات أثبتت إن سعيد كان مدوَّر الدنيا بدون علمه، واستغل مكانته في الشغل وبقى يمرَّر الحبوب وسط الطلبيات عشان محدش يكتشفها، وبالمرة لو الدنيا انكشفت أبو فؤاد هو اللي يلبس فيها، بس الأوراق اللي معايا كان عليها توقيع سعيد باسم مستعار، لكن الطب الشرعي أثبت إن ده خطه، والتحقيقات أثبتت إنه ديلر من بين كتير بيوزعوا الحبوب للأشخاص اللي كانوا واخدين من المصنع ستارة يشتغلوا من وراها.
كلهم وقعوا، مُش سعيد وبس، ده في ناس كتير بتشتغل مع تُجَّار طلعوا بيشتغلوا نفس الشغلانة، ده غير إن خلال التحقيقات حادثة أبويا اتفتحت، ساعتها تم استدعاء عم عزيز الطعمجي واتعرَّف على سعيد، ومع ضغط التحقيقات اعترف إنه كان في المنطقة منتظر رجوع أبويا عشان يخبطه بالعربية، اللي بالمناسبة طلعت مسروقة، واختار مكان مفيهوش كاميرات، وده بعد ما درس المنطقة واختار المكان المناسب، وطبعًا عمل ده بتعليمات من الناس اللي مشغلينه لما حسوا إن أبويا كان متابعهم وبيفتِّش وراهم بعد ما ساب الشغل، وساعتها بس عرفت ليه أبويا كان بيخرج في وقت متأخر، لأنه كان بيحاول يوصل لطريقة ينتقم بيها لنفسه، لكن القدر كان له رأي تاني.
بعد اكتشاف الحكاية قرين أبويا معادش بيظهر، وعرفت إن اختفاؤه سببه إن روح أبويا ارتاحت لما حقها رجع، واكتشفت إنه ظهوره مكانش عشوائي، ده كان بيظهر لي في الأماكن اللي المفروض أدوَّر فيها عشان أوصل للحقيقة، زي ما يكون بيرسم خط عشان أمشي عليه ويساعدني في الوصول للحقيقة، يعني لما ظهر لي في المخزن كان بيحاول يقول لي إن في شخص هنا متورط في دمي، ولما ظهر لي في مطعم عم عزيز الطعمجي كان بيحاول يقول لي إن في هنا شاهد على اللي حصل، ولما ظهر لي على شكل عم علي كان بيحاول يفهّمني إنه بيطلب منه يساعدني.
أما أنا بقى، فمكملتش في شغلي، لأني بعدها اتعيِّنت في المصنع بعد إثبات براءة أبويا، وإني مبقتش ابن واحد مختلس، أنا كنت ابن واحد اتظلم وخرج من شغله عشان كان بيحاول يعمل حاجة صح، ده غير إن عم علي رجع مكانه في الحسابات وبقى معايا بعد ما مهمته انتهت، وساعتها سمحوا له بفترة بعد المعاش كنوع من المكافأة، حتى مُراد، اتكافئ من أبو فؤاد وبقى دراعه اليمين بعد ما ساعد في وقوع الشخص اللي كان بيخون ثقته، الدنيا بعد الحكاية دي بقت ماشية بالقلم والمسطرة زي ما بيقولوا، الشغل بقى بيتعمل بضمير والطلبيات اللي رايحة وجاية كانت نضيفة، أصل من الآخر، اللي عرَّض حياته للخطر عشان يحارب الغلط مُستحيل يعمله أو يسمح بيه.
تمت...