استكمالًا لرحلتنا حول موسوعية الحضارة الإسلامية نعيشُ اليومَ مع أحد أعلام القرن الثالث الهجري، الذي اُشتهر بعلمه في الفلك والرياضيات والهندسة والموسيقى والطب والفلسفة، ليحظى بشرف الموسوعية العلمية.
نعيش اليوم مع «إقليدس العرب»، مع حُجة الترجمة، مع قُرَّة الحضارة الإسلامية، مع العالم المسلم «ثَابِتْ بْنْ قُرَّة».
ذلكم الرجل الذي ظهرت عليه ملامح النبوغ منذ صغره، فانتهى من دراسة علوم المعقول والمنقول وهو في الخامسة عشرة من عمره، وببلوغ العشرين تصَّدر للتدريس، وكانت له حلقات علم في الجامع الكبير بمسقط رأسه (حران - تركيا)، يشرحُ فيها الفلك والهندسة والطب وما وراء الطبيعية، جامعًا في إسلوبه بين منطق العقل والقلب، ومخاطبة الفكر والروح.
قال عنه المؤرخ الكبير ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة: «كان فاضلا بارعا في علوم كثيرة»، وقال ابن أبي أصيبعة: «لم يكن في زمانه مَنْ يُماثله في الطب وجميع الفلسفة».
أما عن جهوده العلمية فكانت حاضرة بقوة في علوم كثيرة ومجالات متعددة.
واتباعًا للعادة التي سلكناها في هذا الكتاب منذ البداية أنْ نكتفي بذكر المؤلفات فقط دون شرح ولا تعليق.
فإنَّ للعلامة ثابت بن قرة مؤلفات كثيرة في مجال الفلك وعلوم النجوم والكواكب، مثل:
كتاب حساب الأهلّة، ورسالة في سنة الشمس، وكتاب في عِلّة كسوف الشمس والقمر، وكتاب فيما يظهر في القمر من آثار الكسوف وعلاماته، وكتاب في الهيئة، وكتاب في تركيب الأفلاك، وكتاب في حركة الفلك، ومقالة في حساب خسوف الشمس والقمر، وكتاب في مختصر علم النجوم، ورسالة في طبائع الكواكب، وكتاب إِبْطَال الحَرَكَة في فَلَكِ البُرُوج.
وهو أول من توصل لحساب طول السنة الشمسية حيث حددها ب 365 يوما و6 ساعات و9 دقائق و12 ثواني.
أما عن علم الرياضيات والهندسة: فكان - كما وصفه الإمام الذهبي في أعلام النبلاء - أعجوبة في الرياضيات، وإليه المنتهى في ذلك.
وقال عنه ول ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»: «إن العالِم المسلم ثابت بن قرة هو العالِم الذي أفاد علماء الغرب فيما بعد في تطبيقاتهم وأبحاثهم الرياضية في القرن السادس عشر، والتي كانت أساسا لظهور الحضارة الغربية المعاصرة».
وله مؤلفات كثيرة جدًا في هذا المجال، منها:
كتاب في مساحة الأشكال وسائر البسط والأشكال المجسمة، وكتاب في المسائل الهندسية، وكتاب في أن الخطين المستقيمين إذا خرجا على أقلّ من زاويتين قائمتين التقيا، وكتاب في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية، وكتاب في قطع المخروط المُكافِئ، وكتاب في المُربَّع وقُطره، وكتاب في المثلث القائم الزاوية.
أما في ميدان الطب وعلاج الأمراض: فله مؤلفات كثيرة ومتشعبة، منها:
اختصار النبض الصغير لجالينوس، وتدبير الصحة والبصر والبصيرة في علم العين، وجوامع الأمراض لجالينوس، والأدوية المفردة، والذخيرة في علم الطب، وكتاب في أوجاع الكلى والمثاني، ورسالة في الحَصَى المُتَوَلِّد في المَثَانَة، وكِتَاب وَجَع المَفَاصِل والنَّقْرَس، ورسالة في البياض الذي يظهر في البدن، ورسالة في الجدري والحصبة.
وله في علوم الجغرافيا: ترجمة كتاب جغرافية المعمورة لبطليموس.
أما عن علم الفلسفة: فقد وصفه الإمام الذهبي في أعلام النبلاء بأنه «فيلسوف عصره».
وذكر المحققون بأن فلسفة «ثابت بن قرة» منتشرة بكثرة في كتاباته، ولم يكن له مؤلفات خاصة في الفلسفة إلا القليل، مثل: مقالة «النظر في أمر النفس»، وكتاب «في الطريق إلى اكتساب الفضيلة»، وله كتاب «المدخل إلى المنطق».
وكذلك في فنون الموسيقى: له كتاب في أبواب علم الموسيقى، ومقالة في الموسيقى.
وله في علم الفيزياء: رسالة في كتاب المناظر الإقليدس.
وكذلك له رسالة في السبب الذي من أجله جُعلت مياه البحار مالحة.
وكان متقنًا لعدد من اللغات الأجنبية، لذا صار من كبار المترجمين في «بيت الحكمة»، ويحكى أن الخليفة المأمون كان يعطيه راتبًا يبلغ خمسمائة دينار في الشهر، وهو مبلغ لا نكاد نتصوره لمترجم حتى في العصر الحديث.
فسلامُ الله ورحماتُه إلى أولئك العلماء الآكابر الذين عَزَّ الله بهم الإسلام فرفعوا رايته في نفوس العالمين.