أيها الإخوة الكرام، ها هي الليلة الأولى في هذا الشهر العظيم المبارك، الذي نسأل الله أن يُهلَّهُ علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام وأن يجعله هلال رشد وخير.
تأتي الليلةُ الأولى حاملةً أحداثٍ كبرى وتغيراتٍ عظمى؛ لا تحدث أبدًا إلا في هذه الليلة؛ إذ فيها تفتح أبواب الجنان وتُغلَّقُ أبواب النيران، وتُصفَّد الشياطين، ويُسلسل الجان، وفيها يبعث الله مَنْ ينادي في العباد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر!!.
في هذه الليلة المباركة يتغير الكون كله، تتغير قوانين الخير والشر، فالجنانُ تُفتَّح فلا يُغلق منها باب، والنيرانُ تُرصد وتُغلَّق فلا يُفتح منها باب، والأجر يُضاعف، لتصبحَ النافلةُ بفريضة والفريضةُ بسبعين والله يضاعف لمن يشاء.
ولكن مع هذا التغيير كله، هل يليق بنا أن نظلَّ واقفين مَكَانَنَا دون حركةٍ ولا تغيير؟!
كلا، إن هذا التغيير الإهي للكون في هذه الليلة يدعونا وينادينا أن نغير من أنفسنا، لنستقبلَ نفحاتِ الله في تلك الأيام المنفوحة، أن نتغير من الغفلة إلى اليقظة، من الفرقة إلى الوحدة، من التشرذم إلى التكاتف، من الأنانية إلى الحب والإيثار، من البخل إلى الجود والكرم، ...
تنادينا هذه الليلة أن نتغير من الكسل إلى علو الهمة، من التقصير في العبادة إلى المداومة والزيادة.
أن نجدد إيماننا، أن نتوب إلى ربنا، أن نعود إلى خالقنا، وأن ننبذ الخلافات والعداوات من بيننا.
تأتي الليلة الأولى (ليلة التغيير) لتنادينا:﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ [الرعد ١١]
فشهر رمضان فرصة جديدة لكل مَنْ يريد أن يتغلب على هواه ويتخذَ طريقا إلى مولاه.
ولكن كيف يتحقق هذا؟
يتحقق هذا بالتوبه والإنابة ... بتجديد النية ... بالمحافظة على الصلوات الخمس في جماعة، يتحقق هذا بالصيام، بالصدقات، بإطعام الطعام والتيسيرعلى المحتاجين، بمدارسة القرآن وقراءة القرآن.
نعم، إن أعظم ما يتقرب به المسلم لله في هذه الأيام المباركة هو القرآن؛ لأنه شهر القرآن.
﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ﴾ [البقرة ١٨٥]
ومن يتدبر في هذه الآية يلاحظ أنَّ الله رتَّب فرضية الصيام على نزول القرآن؛ إعلانا بذلك أنَّ الله سبحانه ما فرض الصيام في هذا الشهر إلا لنزول القرآن فيه، فالصيام ما هو إلا امتنان وشكر لله على نعمة القرآن.
من أجل ذلك؛ فإننا إن شاء الله – لو قدر الله لنا الحياة والبقاء – سوف نعيش طوال هذا الشهر المبارك مع مدرسة القرآن، لنقف كل ليلة مع بعض الأسرار القرآنية واللطائف الإيمانية، التي أودعها الله في كتابه وأمرنا بالتدبر والتفكر فيها؛ لعلَّ الله ينظر إلينا نظرة رحمة نخلص بها إلى رضوانه، ونحظى بإحسانه، نسأل الله التوفيق والمعونة والقبول، فهو على كل شيء قدير، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.