عندما نقول: في البدء كانت مصر، ومصر هي التي علَّمت العالم؛ بعض السُذَّج يعتقد أنَّ هذه مجاملة ومبالغة، وبعضهم يُكذِّب ذلك متعللًا بالواقع الراهن، لكن في الحقيقة ليس لأحدٍ من الطرفين مستند غير العاطفة المكدورة والفكر السطحي والجهل الفادح الفاضح.
ولو أنَّ هؤلاء أو أولئك كَلَّف نفسهُ واقتطع جزءًا من وقتهِ؛ ليتصفح دفاتر التاريخ القائمة على المنهج العلمي الدقيق، سواء لعلماء مصريين أو لعلماء المصريات الأجانب وما أكثرهم؛ لوجد أن مصر لم تكن منذ سابق متقدمة فحسب، بل سيجد أنها كانت تقود رَكب الحضارة الفريدة الوحيدة على ظهر الأرض، قبل أن تتولد تلك الحضارات الأخرى.
إي وربي إنه لحق، فمن مصر القديمة انبثقت الحضارة اليونانية والرومانية والحضارة العربية والإسلامية ومن ثَمَّ حضارة الغرب جميعًا.
وليس هذا كلامي بل هو كلام عالم المصريات البريطاني والاس بادج حين قال: «نحن نحتاج لقرنين من الزمان حتى نصل إلى قمة الحضارة الإنسانية التي وصل إليها المصري القديم».
وهو قول عمدة برلين السابقة كارين شوبارت: «كيف كان سيكون شكل العالم لو لم تكن الحضارة المصرية القديمة».
وقول شامبليون: «يتراعى الخَيَال ويسقط بلا حِراك تحت أقدام الحضارة المصرية القديمة».
ومن مصر القديمة انبثقت كل العلوم، وفي هذا يقول وارن داوسن في كتابه (Legacy of Egypt): «إن أسس العلوم كلها وُضعت في مصر منذ خمسين قرنًا من الزمان».
ويقول أفلاطون - المفكر اليوناني - في كتابه «القوانين»: «ما من علم لدينا إلا وقد أخذناه عن مصر». ويقول أيضًا - وقد جاء إلى مصر ومكث فيها 13 عاما يتعلم القانون والفلسفة - بعدما عاد لبلاده: «أيها العلماء اليونانيون أنتم أطفال على علماء مصر........علموا أولادكم الفنون المصرية ثم بعد ذلك أغلقوا السجون».
ففي الرياضيات كانت مصر هي الأولى، ورياضيات الأهرامات (أكثر من 114 هرما) تشهد بذلك، وبرديات أجدادنا بين أيدينا تشهد بذلك، ويا ليتكم تعرفون أن أربعة من علماء الرياضيات الأجانب وهم (أرشيبالد، وتشيز، ومانج، وبل) اكتشفوا 35 وثيقة أصلية فى رياضيات الدائرة والمثلث الذهبي في مقابر المصريين القدماء، والتي تعود تاريخها من 3500 ق.م إلى 1500 ق.م، فوجدوا فيها قيمة الباي (π=3.14)، وطريقة حسابها...... ويا ليتكم تقرأون كتاب «رياضيات الهرم الأكبر» لجون تايلور.
وفي الطب كانت مصر هي أول من أجرى عملية تَربنة في المخ، وأول مَنْ أجرى عملية الكتاركت، وأول مَنْ زرع الأسنان، وأول مَنْ عرف جنس الجنين والحمل والعقم (السونار)، وأول من صنع خيوط الجراحة cat gut، وأول من اكتشف البلهاريسيا ووضع لها علاجا بالأنتيمون..... ويا ليتكم تقرأون كتاب «الطب المصري القديم» للأستاذ الدكتور حسن كمال، وكتاب «الطب عند المصريين القدماء» للدكتور وسيم السيسي.
وفي الكيمياء، كانت مصر هي الأولى، وفي مصر وُلدت الكيمياء لأول مرة، ويا ليتكم قرأتم كتاب (الكيمياء عند المصريين القدماء) لصاحب هذه السطور؛ كي تروْا مدى عظمة أجداكم، وسَبقهم في اكتشاف المعادن وصهرها وصناعة الكثير من المواد.
وفي الفلك، استخدم أجدادنا المصريون المسلَّات كساعات شمسية وأداة لقياس محيط الكرة الأرضية وتحديد مواعيد الفصول الأربعة، واستخدموا الأهرامات وبعض المعابد كمراصد فلكية، ورصدوا نجوم مختفية لا يسهل رصدها إلا بأحهزة حديثة، وأسسوا التقويم الشمسي الذي يبدأ بظهور الشعرة اليمانية فجر 11 سبتمبر، واخترعوا أقمارًا صناعية، ورصدوا ظاهرتي الكسوف والخسوف والتنبؤ به مسبقًا....
ويا ليتكم قرأتم ما ذكره المقريزي في (الخطط) وابن إياس في (نزهة الأمم) وغيرهما بشأن هذا الموضوع.
ويا ليتكم قرأتم ما قاله كبلر فى كتابه «الاعترافات»: ليغفر الله لي سرقتى هذا القانون «القانون الثاني لحركة الأجرام السماوية» من على التماثيل الذهبية في مصر القديمة!.
وفي القانون، كانت مصر أول من وضعت قانونًا لحقوق الإنسان «قانون حور محب - الأسرة 18»، ولقد اكتشف تشريعات هذا القانون العالم الأثري الفرنسي (ماسبيرو) سنة 1882م وقام بترجمتها، ثم قام حديثا كلا من: ماكس، ملر، وجيمس هنري بريستيد بترجمتها والتعليق عليها أيضًا.
ويا ليتكم تقرأون كتاب «فلسفة وتاريخ القانون عند المصريين القدماء» للأستاذ الدكتور محمود السقا.
لتروْا قمة العدالة والنظام الذي كان يتمتع به المصري القديم، إذ بلغ من عدالتهم أن تكونت محكمة من أربعين قاضيا لمحاكمة (بنتاؤر) ابن الملك رمسيس الثالث «الأسرة 20» لخيانته، ولما اكتشفت المحكمة أن اثنين من القضاة كانا يسهران في القصر، حكموا بإعدام القاضيين، فانتحر القاضيان قبل تنفيذ الحكم.
وكان خطاب العرش للوزير الأعظم: «اعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق بل مرة!، اعلم أن الماء والهواء سوف يخبرانني بكل ما تفعل، اعلم أن احترام الناس لك لن يكون إلا بإقامتك للعدل، وأن العدالة هى الحياد المطلق، وإذا أتى إليك شاكٍ عليك أن تطمئن إلى أن كل شيء يجرى وفق القانون».
مصر علمت العالم كله الأخلاق، وفي القرآن الكريم وصفَ الله أهل مصر بالكرم وبالشهامة وبالسعي والنصيحة والأخلاق الحميدة. (راجع كتابنا: قالوا عن مصر)
تقول كارين شوبارت: «مصر أسعدت العالم بأن علمته قانون الأخلاق». وكتاب الموتى ومتون الأهرام يشهد لذلك بما فيه من النصائح والتوجيهات والأخلاق التي ما عرفتها الدنيا بعد ذلك إلا مع مبعث النبي ﷺ فأتمها وأحياها من جديد (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
الحقيقة أن الموضوع كبير وشيق ولا تسعهُ العبارة ولا تكفيه الإشارة، وبإذن الله سأنشر تباعا مقتطفات عن عظمة تلك الحضارة، لكي نعرف مَن نحن؛ لعلنا ننطلق من هذا الإرث الحضاري العظيم.