ليس كل من وُلد من صلبك، قد كُتب له أن يكون عونًا لك... وقد لا يكون كل من أضنيت لأجله العمر، أهلاً لحمل اسمك أو صون قلبك. هكذا الأبناء... قدرٌ يُولد معنا، لا اختيارٌ نصنعه بأيدينا.
قد يُضيء أحدهم دربك، فيما يُطفئ الآخر مصابيح الطمأنينة في روحك. وقد تُرهقك الكفوف التي ربيتها لتصافح الحياة، وقد يؤلمك القلب الذي نبض في صدرك قبل أن ينبض في جسده. فلا أحد يملك أن يُحدد أي الأبناء سيكون بَرًّا، وأيهم سيسلك درب العقوق. ذلك أمرٌ تُدبّره الأقدار، لكننا – نحن الآباء – نُحاسب على التقصير، لا على النتائج.
ففي زمن المراهقة، حين تنفلت الأسئلة من أفواه الأبناء كالعصافير من أقفاصها، يكون حضورنا ضرورة لا رفاهية. أن نرافقهم، لا أن نُراقبهم فقط. أن نفهم تمردهم، لا أن نقمعه. أن نؤمن أن التربية ليست سكبًا للأوامر، بل بناء بطيئ من الحُب والحدود، ومن الحزم المُطعَّم بالحِكمة.
ومع ذلك، فإن الابن الذي تربى على فطرة نقية، بين يدين تُحسن الدعاء قبل العقاب، وتُجيد الإصغاء قبل النصح، نادرًا ما يكون سيئًا. وإن أخطأ، فإنه لا يُقيم في الضلال طويلًا.
لكن، ماذا عن الناس؟ عن المجتمع الذي بات يُقوِّم الأبناء بميزان المال لا الأخلاق؟ صار البرّ في نظرهم راتبًا، والنجاح رقمًا، والاستقامة شيئًا يُدفع مقدمًا. من يعمل، فهو ابن بار، حتى وإن تاه في دروب الانحراف. ومن عجز عن العمل، فهو فاشل، حتى وإن كان قلبه من ذهب.
لقد جعلوا من المال إلهًا صغيرًا، يوزع الشهادات على الأبناء، ويصادر منهم كل فضيلة لا تدرُّ دخلًا. وها نحن نعيش في زمن صارت فيه الأخلاق تُقاس بمقدار ما تملك، لا بما تحمل.
فكيف نطلب من الأبناء أن يكونوا صالحين، ونحن نُسلمهم إلى مجتمع فاسد المعيار؟ وكيف نرجو من الزهر أن يُزهر، ونحن نُغرق جذوره في الطين؟
ليتنا نُدرك أن البرّ لا يُشترى، وأن الإبن الصالح لا يُولَد بقدر ما يُزرَع. وأن كلّ يدٍ امتدت لتُربّي، ستجني - مهما طال الزمن - ثمرة تعبها، ولو بعد حين.