في وطنٍ كان يُغنّي لأحلام الأطفال، صار الصغار يستيقظون على أصوات المدافع بدلًا من الأناشيد، ويهرولون إلى الملاجئ بدلًا من فصول الدراسة. في السودان، لم تعد الطفولة كما نعرفها، بل أصبحت حكاية مبتورة، تبدأ بالبكاء ولا تنتهي.
صرنا لا نفهم معنى الاستقرار. نعيش غرباء عن الحياة، في وطنٍ نحبّه ويخذلنا كل يوم. هذه ليست حياةً تشبهنا، بل غربة دائمة في قلب المكان، وظلام لا يُشعل مصباحه أحد.
السودان أصبح مرتعًا للجنجويد، الذين تسللوا من أطراف دارفور إلى قلب الخرطوم، ينشرون الفزع باسم القبيلة، ويخفون أطماعهم في عباءة المظلومية. في السابق، كان الإعلام يزيف الحقيقة، ويتركنا نعيش في وهم السلام. لم نعرف تفاصيل المجازر، إلا من قصص الأصدقاء، التي كانت تصلنا مثقلةً بالدمع.
هؤلاء لا يقاتلون من أجل الحقوق كما يزعمون، بل من أجل المال والسلطة. ومع مرور الوقت، بنوا شبكة عميقة في مفاصل الدولة، ودرّبوا قيادات على تنفيذ مشروع التمزيق. غلّفوا نواياهم بالعطاء الكاذب، بمبادرات ظاهرها الرحمة وباطنها التبييض لوجهٍ شاحبٍ بالدم.
ثم جاءت حرب أبريل، لا كفصل عابر في رواية الحزن، بل كنقطة سوداء التهمت كل البياض. نزح الآلاف، وفقد كثيرون أبناءهم. لكن الخسارة الكبرى كانت للطفولة، التي تشردت، وتبعثرت، وانكسرت.
تخيّل طفلًا، يخرج من مدرسته إلى خيمة، ومن بيته إلى معسكر، ومن عالمه المألوف إلى غربة لا لغة لها. عليه أن يبدأ من الصفر، أن يعيد تعريف نفسه، أن يحاول فهم ثقافة جديدة وهو بعد لا يفهم نفسه.
بعض الأطفال لم يجدوا سوى الشارع، لا للعب، بل للعمل. تركوا الكتب وحملوا أدوات النجارة والبيع في الأسواق، صاروا رجالًا صغارًا قبل أوانهم. لا وقت لديهم للقلق على الدراسة، فقط رغيف الخبز هو الحلم.
الحرب صهرت الجميع في بوتقة واحدة. لم يعد الفقر والغنى يفرق بين أحد، بل صرنا نصنّف الناس بنازحين ومواطنين. ومع كل هذا الألم، ظل التعليم يقاوم. في مدارس تحوّلت إلى معسكرات، يجلس أطفالٌ بأقدامٍ حافية وعيونٍ حالمة.
نقول لكل من يهمه أمر الوطن: التعليم ليس رفاهية، بل هو النافذة الوحيدة المتبقية للنجاة. فلنُبقِ هذه النافذة مفتوحة، من أجل أطفالٍ يستحقون أن يعيشوا الحياة، لا أن ينجوا منها فقط.