في مساءٍ ربيعي من شهر أبريل، حملتني خطواتي إلى قرية نائية أزورها للمرة الأولى، بدعوةٍ من صديقٍ عزيز غاب عني زمنًا، لكنه لم يغب عن القلب. استقبلني كما يستقبل النخل مطر الصيف؛ بفرحٍ صادق وحفاوةٍ تنتمي إلى زمنٍ طيّب، كأنما أراد أن يقول لي: "البيت بيتك، والليلة لنا." كان مبتسمًا بشوشًا، لا يُقصّر في شيء، كأن الكرم يسكن تفاصيله.
طلب مني أن أمكث عشرة ليالٍ، فاعتذرت بلطف، فالالتزامات لا ترحم، والوقت يزحف كأنه لص. لكنني رضخت أمام إلحاحه لقضاء ليلة واحدة على الأقل، ولم أكن أعلم أن تلك الليلة ستكون حكايةً تُروى.
في صباح اليوم التالي، اصطحبني إلى مقهى شعبي يطل على النهر، حيث جلسنا على مقعد خشبي بسيط، لكنه حمل دفء الذكريات وحنين الطفولة. كانت الجلسة أشبه بلوحةٍ تنبض بالحياة؛ استحضرنا فيها لحظاتٍ من ماضٍ لا يُنسى، وكأن النهر من حولنا يعيد ترديد صدى ضحكاتنا.
تذكّرنا العم عباس، صاحب الدكان الوحيد في الحي. كنا نضايقه ببراءة الأطفال، نلهو ونشاغب، نتسابق ونتشاجر، لكنه كان يبتسم رغم كل شيء، ويطلق علينا لقب "الشياطين المجانين". لم يكن يغضب منا، ولم نأخذ اللقب على محمل الجد. كنا نعود إليه كل مرة، نشتري الحلوى، ونضحك كما لو أن شيئًا لم يكن.
ثم قفزت إلى ذاكرتي لحظةٌ عالقة لم تغب: يوم رأيت صديقي يتحدث مع أجمل فتيات الحي، فتاة شعرها يتدلّى كجديلة من الليل، تمشي بخفةٍ وثقة، كأنها أميرة خرجت من كتاب. يومها، لم نكن نعرفها، ولا سمعنا عنها، رغم أننا نعيش في نفس المكان!
سألته: "تتذكّر تلك الفتاة؟"
فضحك، ضحكةً واسعة كأنها خرجت من عمق روحه، وقال: "ومن ينسى؟"
ثم التفت إليّ وسألني عن القهوة التي شربناها البارحة. قلت له: "قهوة ممتازة، ضاربة في الرأس من أول رشفة! أعادتني إلى قهوة الحاجة سعدية في ميدان التحرير."
ابتسم وقال: "تلك القهوة صنعتها زوجتي الثانية."
صُعقت. "زوجتك الثانية؟!"
قال بهدوء: "نعم، وهي ذات الفتاة التي رأيتني أتحدث معها في ذلك اليوم... تزوجتها قبل ثلاث سنوات."
لم أدرِ وقتها: أأضحك؟ أندهش؟ لكنني تماسكت، وسألته: "كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟"
ضحك مجددًا وقال: "يا صديقي، الزواج راحة وسَكن، وهو نعمة من نعم الله، وسنة من سنن نبينا صلى الله عليه وسلم. أعلم أنني صغير في العمر، لكنني أردت أن أُحيي سنةً وأُكمل ديني."
ثم تلا قوله تعالى:
"وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..."
وتابع: "لقد أحببتها منذ وقتٍ مبكر، وكانت هناك ظروف تمنعنا، لولا تمسكنا ببعضنا. اخترتها رغم التقاليد، رغم أن مجتمعاتنا لا ترحم. تعلم يا صديقي، هنا الزواج من بنت العم يُعتبر واجبًا لا يُخالف، لكنني اخترت قلبي."
---
هكذا اكتشفت أن القهوة التي أعادتني للذكريات، كانت من يد فتاةٍ أصبحت شريكة عمره. وأن بعض القصص لا تنتهي عند الطفولة، بل تعود إلينا ناضجة، ناعمة المذاق، كفنجان قهوة أُعدّ على مهل.