منتصف أيّار... الريح تعبر الأزقّة كأنها تنعَى شيئًا خفيًّا، والبرد يتسلّل إلى العظم رغم اقتراب الصيف. الزمن كان يمرّ كسحابة خريفٍ مثقلة، لا تمطر، لكنها تُذكّرك بأن شيئًا على وشك الانطفاء. لم نكن بحاجة إلى كلمات مواساة، ولا إلى محاولات تطبيبٍ لقلوبنا، فقد كانت هي – رونق – تملأ أيامنا بلون الحياة.
لم تكن صديقة فقط، كانت حضورًا دائمًا، طمأنينة تمشي على قدمين، وابتسامة تُرمّم الشروخ. في حضرتها كانت السعادة تُلقي التحية، وكانت الاحترام عادة، والدفء لا يغيب. لم يخطر ببالنا، ولو للحظة، أن نستيقظ يومًا دون أن تشرق هي في تفاصيلنا. كيف يُكتب العمر من غيرها؟ كيف يُرتّب القلب وجعه دون أن تمرّ رونق لتهوّن؟
في خضمّ التغيير الكبير، حين هتف الناس للحرية وأسقطوا نظامًا دكتاتوريًا خانقًا، وبدأوا يشقّون الطريق نحو حكمٍ مدنيّ ديمقراطيّ... في ذلك الأمل الوليد، خرج من الظلال من يرفض النور، وبدأت سلسلة اغتيالات غامضة لشخصيات سياسية واجتماعية. لم يكن القاتل يفرّق بين امرأة ورجل، كان الموت يتسلّل خفيًا، بطرقٍ دقيقة، حديثة، لا تترك خلفها أثرًا سوى الغياب، سوى الأسى.
ثم... اختفت رونق.
مرّ أسبوع، ثم آخر، ثم شهرٌ كامل، دون أثر. بحثنا عنها في كلّ مكان: بين الجيران، في مكتبها، عند صديقاتها، على الأرصفة التي اعتادت السير عليها. سألنا، ترقّبنا، تمنّينا، ولم نترك بابًا إلا وطرقناه. هي ليست مجرّد ناشطة إنسانية، ولا متطوعة اجتماعية... هي من نساء بلادي الكادحات، تمشي بثبات، تعطي بلا منّ، تعيش للناس كما تعيش لذاتها.
وفي أحد المستشفيات، عثرنا على تقريرٍ كانت قد أعدّته عن حالات الأطفال حديثي الولادة. تقرير لم يُسلّم إلى جهة الاختصاص. سألنا أنفسنا بدهشة: لماذا لم يُرفع التقرير؟ هي لا تُؤجل عملاً، ولا تترك ملفًا ناقصًا.
من تلك الورقة بدأت خيوط الحكاية تُروى. رسمنا الاحتمالات، نسجنا الفرضيات، وحفرنا في التفاصيل. حتى وصلنا إلى الحقيقة المفجعة: لقد اعتُقلت رونق سرًا، واحتُجزت في الظلام... ثم قُتلت.
قُتلت لأنها قالت الحقيقة. قُتلت لأن في تقريرها شيئًا يُدينهم. قُتلت لأن صوتها لا يهادن، وقلمها لا يعرف المجاملة.
كان بإمكانهم تركها حبيسة… لكنهم اختاروا أن يغتالوا الحياة نفسها.
رونق... لم تكن مجرّد اسم، كانت معنى. كانت ذلك النور الذي، حين يُغتال، تعتم الدنيا من بعده.