حدَّثت نفسها حديثًا بلا صوت، حديث النفس للنفس:
- الآن فقط يمكنني أن أستريح من عناء يوم طويل.
ضغطت زر المصباح لتطفئه وهي تُردِّد: الآن أستطيع الهروب من كل شيء يؤذيني، الآن أسافر بعيدًا عن الضوضاء التي تحتلني وعن ذلك الضجيج المتراكم بروحي، كم أصبح هذا الضجيج لصيقًا بي حتى إنه أصبح لا يفارقني أبدًا، وكأنه غُبار مارق قد علق بسطح زجاج أملس!
ذهبت إلى الفراش، ألقت برأسها المنهك وعقلها المجهَد على الوسادة، أرخت جسدها، تقوقعت على ذاتها، التحفت جلدها واختبأت خلف الغطاء، عساه يقيها نوبات الفِكر المتتالية.
ظنت أنَّ النوم هو ملاذها من الحزن والألم، وإن لم يكن كذلك فكفى به راحة، ولو لساعاتٍ من ذلك الوجع الذي يقتات روحها صباح مساء.
ولكن هيهات أن يحدث ذلك، فسُرعان ما تدفَّقت الذكريات وسرى الضجيج بعقلها اليَقِظ كسريان النار بالهشيم.
تزاحمت اللقطات بروحها المنهكة الموبوءة بالعشق والهوى، غاصت بفراشها أكثر وأكثر وأكثر عساها تختفي أو تغيب.
سؤال ما زال يتكرر ويتردَّد صداه، وكلما مرَّ الوقت تحوَّل ذلك السؤال لضجيجٍ لا ينتهي، كما أنه أصبح ملحًّا أكثر من ذي قبل:
أين أنت؟ لماذا رحلت عني ولم ترحل مني؟
تذكَّرت إجابته، وليتها ما تذكَّرت.
تذكَّرت تلك الإجابة التي لم تفارق لسانه، ولم تقنع عقلها أو تُرضي قلبها،
إجابة لم يمل من تكرارها أبدًا:
- من أجلكِ أنتِ.
- من أجلي أنا؟! كيف هذا؟ وهل يبقى الجسد بلا روح؟
تذكَّرت دموعها وهي تتوسَّله وتُلِحُّ عليه مُردِّدةً:
- أريدك هكذا كما أنت، ولا أريد سواك.
ليجيبها: وماذا بعد؟
تُطاردها إجابته القاسية والتي أصبحت خنجرًا مسمومًا يدمي قلبها:
- لا أراني بمستقبلكِ.
بصمت قاتل ودموع متحجرة ونبض خافت وآهات مكتومة تغادر فراشها البارد، تلقي بالوسادة خلف ظهرها، تُعيد خصلةً من الشعر قد تناثرت على جبينها وكأنها تريد الاستقلال على حدود جبهتها حتى وإن كانت نافرةً على جبينها المتعرق.
بآهات مكتومة وصرخات ماتت قبل الولادة، سارت بلا هُدى ولامبالاة كالمسيرة عن بُعد أو منوَّمة، ذهبت إلى ركن الذكريات المبعثرة عساها تجمع شتات روحها أو تُعيد تنظيم دقات قلبها، ورُبَّما لتغني لحنًا فيروزيًّا يُلاحق بخار قهوتها المعتَّقة بهيل الأحلام الموءودة قبل الميلاد.
أنارت المصباح ليُضيء عتمة ليلتها الممتلئة بالضجيج، والتي تشبه ببرودتها ما سبقها وما سيليها من الليالي الباردة، وهي تُردِّد بابتسامةٍ باهتةٍ ووجعٍ لا ينتهي:
(الماضي لا يعود، ولكن كثيرًا ما تُؤرِّقنا الذكريات).
تمت





































