كنتُ أظنّ أن النقاء مَنجى،
وأن الطيبة طوف نجاة في طوفان البشر،
فأبحرتُ بقلبٍ مكشوف،
كشراعٍ أبيض لا يُحسن المراوغة…
ولا يعرف كيف يُهادن الريح.
كنتُ ساذجة، نعم،
لكن ليس لفراغٍ في العقل،
بل لاتّساعٍ في النوايا.
وما أكثر الذين خذلوا هذا الاتساع،
وداسوا حقل الورد داخلي بأحذيتهم المُوحلة.
كنتُ أفتح النوافذ،
لأنني ظننتُ أن الضوء لا يُسرق،
وأن الذي يبتسم لا يُخفي خنجره في ضلوعي.
كنتُ أكتب الأسماء على جدران صدري بالطباشير،
فيمحوها الغياب بمطرٍ باردٍ لا يعرف الرحمة.
واليوم…
أقف على بقاياي،
كمدينةٍ غُزيت في نومها،
واستفاقت على دخان الأحلام المحترقة.
أدركتُ أن السذاجة لا تعني الجهل،
بل تعني أنني لم أتعلم الكذب بعد.
وأن الصدق حين يُقال في أرضٍ لا تنبت الوفاء،
يصير كالعُريّ في صقيع الشتاء… يجمّد الروح.
لكنني لم أمت.
لقد رأيتُ براءتي تُسلَب،
كطفلةٍ تُنتزع من صدر أمّها،
ورأيتُ نفسي تُجلد بأسواط الندم،
لكنني عدت.
عدتُ لا أحمل سذاجتي القديمة،
بل أحمل بصيرة امرأةٍ كانت ترى الجمال في كل شيء،
ثم علمت أن الجمال لا يكفي…
إن لم تكن حادًّا بما يكفي لحماية قلبك.
الآن،
أكتب هذا النص، لا لأرثي نفسي،
بل لأقيم نصبًا تذكاريًّا في داخلي،
لـ"التي كانت"…
و"التي لا تزال تحيا رغم كلّ شيء."
وها أنا الآن…
لا أزهو بندوبي،
لكنني لا أخفيها.
فكلّ ندبةٍ على جلدي… شاهدٌ على درسٍ لستُ مستعدّة لنسيانه.
لقد خرجتُ من بين الرماد،
كجذوةٍ لم يطفئها خذلان،
ولا هشّمها ظنّ.
لم أعد أبحث عمّن يُنقذني،
لأنني أصبحتُ أنا المنقذة.
ولم أعد أرتّق خيوط الطيبة القديمة بلهفة،
بل أرتديها على مهل،
وأشدّ حزام الحذر حول خصري،
كما تشدّ المحاربة سيفها قبل الفجر.
أنا لستُ ما كنتُ عليه،
لكنني لا أكره تلك التي كنتُها.
فمن دونها…
ما كنتُ لأبلغ هذا الضوء العميق،
الذي لا يشبه شمس الآخرين،
بل يُشبه ناري…
النار التي لم تحرقني، بل صهرتني لأصير أقوى.
نعم،
قد أكلتني النارُ مرةً…
كما يأكل الجوع طفولةً تُركت بلا مأوى.
ابتلعتني مثل غصنٍ أخضر،
لم يدرِ أن الاخضرار لا يحمي من الاحتراق،
وأن اللين، إن لم يحمِ نفسه،
يصير وقودًا لشهوة الحريق.
لكنني لم أُفْنَ.
كنتُ أسمع نواح الخشب في داخلي،
وأشمّ رائحة احتراقي،
لكن شيئًا أعمق منّي… كان ينضج.
كنتُ أحترق… كي أنضج.
كنتُ أنطفئ… لأتعلّم كيف أوقد نفسي،
بعيدًا عن أعواد الآخرين.
وحين انتهى الحريق،
لم أعد كما كنت.
لم أعد غصنًا غضًّا يُغري النار بلينِه،
بل صرتُ جمرةً راكدة،
تختزن دفءَ الحكمة،
ولا تُعطيه إلّا لمن يستحق البقاء.
هكذا تُنضجنا النيران…
لا لتقتل فينا الحياة،
بل لتصقلها حتى يصير القلب،
معدنًا يعرف قيمته، ولا يصدأ في يد العابثين.