هل تخيلت نفسك يومًا من الأيام، وقد صرت أديبا كبيرا وكاتبا مرموقا، ثم تحدث لك هزة عنيفة تفقدك الثقة في نفسك، وتسوقك مرغمًا أن تتنازل عن أمتع هواية في حياتك وهي الكتابة، وأخلص صديق في دنياك وهو القلم.؟
لقد حققت إنجازات أدبية أشاد بها الجميع، وعرفت الدنيا اسمك، وكنت في مرمى مستقبل واعد، مع قليل من الصبر والثبات، فما يا ترى وكيف تكون حجم وماهية هذه الهزة التي تثنيك عن طريق مجدك وتخلعك من جذور هوايتك؟
هذه هي الانتكاسة التي حدثت مع أديب من الأدباء العظام من الجيل الماضي، والذي كانت رتبته تفوق رتبة نجيب محفوظ أو تساويه، ولكن الضربة أصابته بيأس عتي لم يستطع أن يقوم له بعده في حياته أي نبتة من أمل وقيام.!
إنه الأديب الكبير عادل كامل صاحب رواية مليم الكبر وملك شعاع، الذي انكسر باكرا استسلم سريعا، ورفع الراية البيضاء في أول الطريق، وكان الوداع الذي لا لقاء بعده بدنيا القلم.. بل كان الإحباط الذي حرم ساحتنا الأدبية من مبدع كبير.
حينما طبعت مكتبة الأسرة رواية مليم الكبر وقمت بشرائها، قلت في نفسي من هو عادل كامل، ومن يكون حتى تطبع روايته، لابد أنه شاب موهوب أو كاتب جيد له عمل مفرد واحد وسيكون له أعماله المتوالية فيما بعد، لأنني لم أسمع بهذا الاسم أبدا.
ثم لما قرأت كتاب أنا نجيب محفوظ رأيته يتحدث عن نفس الاسم عادل كامل ويرثي الأدب والكتابة في فقده، ويذكر أشياء كثيرة عن موهبته وصحبته.
تنبهت للاسم والرواية ودفعني ذلك لتقفي أثر الرجل، والقراءة عنه، وما الذي حجب موهبته الأدبية حتى عرفت المأساة التي يجب أن يكون لكل كاتب منها عبرة ودرسا يستفيد منه.
يذكر النقاد: إن عادل كامل كان موهبة روائية جبارة تنبئ بكثير من الحضور والتألق وتحقيق المجد، وتوقع كثيرون وقتها أن يسبق عادل كامل أقرانه جميعا في فن الرواية
هل تتخيل؟!
بعد تخرجه من الحقوق امتهن الكتابة واكتشف موهبته مبكرا، فكتب مسرحيات ونشر قصصا قصيرة في مجلة المقتطف مثل فئران المركب وويك عنتر وشبان كهول.
وكتب بعضهم أن العملين الأهم اللذين كشفا عن موهبة استثنائية لدى عادل كامل كانا روايتي ” ملك من شعاع ”.. والتي كتبها بلغة جديدة ومختلفة وشارك بها في مسابقة مجمع اللغة العربية عام 1943وفاز عنها بالمركز الأول بينما فاز منافسه نجيب محفوظ بالجائزة الثانية عن روايته كفاح طيبة.
و الثانية رواية مليم الأكبر، وكانت عملا بديعا بكل المقاييس الفنية بشكل بسيط ومعبر، ولغة بسيطة سلسة معبرة وناصعة وواضحة، حافلة بالأفكار الحداثية الجديدة، وتقدم بها إلى مسابقة مجمع اللغة العربية في دورتها الثانية عام 1944 التي فاز بدورتها الأولى متوقعا تكرار فوزه مرة ثانية، بينما تقدم نجيب محفوظ بروايته السراب لنفس المسابقة، لكنهما صدما صدمة كبيرة، حينما حجبت الجائزة عنهما، بسبب منصور باشا فهمي عضو المجمع، الذي رأى أن رواية مليم الأكبر، تحاول الترويج للفكر اليساري، بينما تميل رواية السراب للجنس كمنحى مهم في أحداثها ومسارها.. فما الذي حدث بعد هذا الرفض ؟.. اعتبر نجيب محفوظ حجب الجائزة عنه تحديًا كبيرًا في مشواره الإبداعي وزاد إصراره على الإبداع وتقدم لمسابقة وزارة المعارف برواية أخرى هي خان الخليلي، أما عادل كامل فحزن واكتأب واستسلم للأمر الواقع، ورأى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وقرر في العام التالي اعتزال الأدب والانسحاب من الساحة الأدبية نهائيا، وشكك في دور الأدب وقدرته على التغيير، وتوجه بكليته للمحاماة وعمل وكيلا لأعمال ثري لبناني يتاجر في العقارات ثم سافر فترة طويلة إلى أمريكا.
وبعد صدمته بحجب الجائزة انتقد بشكل ساخر أعضاء لجنة مجمع اللغة العربية وبخاصة توفيق الحكيم، وكان دائم الهجوم على نقاد ومبدعي عصره حين قال عنهم ” إنهم لا يعيبون عليك أن أسلوبك لم يكن بالسهل الواضح وإنما فهمت أنهم كانوا يريدونه جزلا متقعرا رنانا، فقد كان من واجبك أن تستعمل ألفاظا ضخمة تملأ الفم، وتلفق سجعا موزونا يلذ السمع، وتأني بمفردات غريبة تهز النفس، حتى يقال أنك كاتب متمكن
وفي مقدمة روايته الأشهر مليم الأكبر انتقد عادل كامل كتب التراث العربي انتقادا صارخا وقال: إنها لا تصلح إلا أن تكون كتبا يتسلى بها القارئ وتعينه على النوم.
وحين سئل عادل كامل: لماذا تركت الكتابة وكان بإمكانك أن تكون روائيًا كبيرًا أجاب: يكفي الأدب المصري مجنون واحد هو نجيب محفوظ أما صاحب نوبل فحين سئل عن صديقه ورفيق بدايته عادل كامل قال:” إنه الأديب الوحيد في جيله، الذي كان يمكنه التفرغ للأدب، فقد كانت أحواله المادية مستقرة ويمتلك سيارة خاصة في وقت كان فيه من يمتلكون سيارات خاصة معروفون بالاسم.. غير أنه أردف قائلا:” إنه كاتب مبدع من طليعة كتاب جيلنا بغير جدال “
وحينما نال محفوظ جائزة نوبل تنبه كامل بعد هذا العمر الطويل أنه أخطأ وندم على تركه للساحة الدبية، فقد كان من الممكن أن يحقق شيئا كالذي حققه رفيقه الذي كان متفوقا عليه في يوم من الأيام.!
ولكن بعد فوات الأوان لا يبدي الندم شيئا.
ستحدث لك أيها الكاتب محطات هدم في حياتك، وساعتها عليك وأنصحك أن تكون صورة عادل كامل ورفيقه محفوظ في مخيلتك، إما أن تواصل وتنجح وتتحدى وتصبر لتكون كمحفوظ، وإما أ تيأس وتقنط وترحل ثم بعد ذلك تندم كما ندم عادل كامل.