أتدري شيئًا عن المسافة الكنود والمسافة العنود؟!
أما عن المسافة الكنود،
فهي تلك اللعوب التي كفرت بأنعم الوصل فارتكست في خطايا العناد، وامتطت العقل؛ لتنثر فيه بذور الأوهام، وتغذيها بسوس القسوة، وتلعب بالأفكار، فإذا تمكنت من افتراشها للقلب والعقل، اقترفت أوزار الكراهية، وظلت رابضة على باب الفراق تسترق الحِس لأي ثغرة يلوِّح فيها الهجر بقيامته؛ ليبني في القلب منازل من الجفاء والبعد، يتربع فيها الغياب على عرش المسافات البعيدة حد المقت، القريبة قرب الروح للجسد!
أما عن المسافة العنود..
فهي الجاثية في حضرة البعد طوعًا وحبًا وكرامة، الراغمة أنف الغياب على المضي قُدمًا شطر الوصال والاستقامة، الماحية نوايا الظنون الآثمة، الخافضة للمحبة جناح الذل من الرحمة، إن أقبلت.. ضمتها، وإن أدبرت انكفاءً على سوءات البلايا وتقلب الأيام.. سعت إليها بالروح والقلب حتى لا تعتريها فتن البعد والمحنة، فطواها العمر طي السجل للكتب؛ ليحتسي من سحرها رضاب الوفاء!
وأنت رائع
عند كل وهن ومض كالبرق في سماء أيامك العجاف، فنهضت تسد الفُرَج؛ حتى لا تذر ثغرة لمرَدَة الهجر يتسللون من خلالها لبتر سبل الوصل وإقامة حصون للقطع!
أنت رائع..
عند إطلالة كل ريح اختبار أضرمت في قلبك نار الشِقاق الجائعة لتقات ثباتك على مهل، فخرجت من دنياك ونفسك وهمك إلى ربك، وأنفقت نفسك بِرًا، ووصلًا، وعملًا صالحًا وجهادًا في سبيل مرضاته جلّ في علاه، وفهمت عن الحياة والحب، وعرفت قدر النعم، وتمكنت من ضبط ميزان الهوى حين استيقظ اليقين داخلك.
يقول ابن حزم:
"والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضلُّ فيها الأوهام؛ فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فَعَل فِعْل النار، ونجد الفَرَح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكدًا شديدًا أكثر بهما جدُّهما بغير معنًى، وتضادُّهما في القول تعمدًا، وخروجُ بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كلٌّ منهما لفظةً تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها".
#زينات_مطاوع