إن دروس الحياة قاسية مريرة, ولابد لكل إنسان أن يكون له نصيب منها, مهما كانت تحمل من الألم, فلا غنى عن تلك التجربة, التي تجعلك تحتك بالناس, وتأخذ منهم عن قرب ومعاملة مباشرة, وأن تتلقى الضربات التي تجعلك ترى الأشياء بوضوح, وعلى بينة, فهذه أرحم من أن تسير أعمى بينهم, لا خبرة, ولا تجربة, فإذا ما تعرضت لهم, وعشت في أوساطهم ,كنت ذلك المذبوح على موائدهم, بلا شفقة ولا رحمة, فلا تستطيع أن تنقذ نفسك من مخالبهم الضاربة في أحشائك, وكلما قلت التجربة, أزدادت الضربات والطعنات, ويصير دمك مستباح, فالإحتكاك بالناس يسفر لك عما تحتوي عليه نفوسهم, وما يستقر في قلوبهم, وتستطيع أن تراهم وتكشف عما يخفى, وراء أشكالهم. تعرف لا لتجاريهم فيما يصنعون, ولكن لتتقي أذاهم, وتحمي نفسك أن تكون لقمة سائغة في أفواهم يلوكونها كيفما أرادوا, وسنحت لهم الفرصة, كنت أتحاشى الناس, لأني لا أرغب في أنتهك حرمة أحد أو أخوض في أمر لا يعنيني, أحترم الأخرين, من أعرف, ومن لا أعرف, فليس هناك, ألا الإحترام والتقدير, وظننت أني بذلك أظفر بالسمعة الطيبة على الأقل, لأني لا أخوض في سيرة أحد ولا أهتم بما لا شأن له بي, فإذا بي أسمع عني كلاما, كأني أسمعه عن إنسان غريب, لم أعرفه ولم ألتقي به في مكان, وما وصموني به من غرور وتكبر, وما خاضوا فيه من سمعتي وألصقوه بي, دون أن يتحروا صدق ما يقولون أو كذبه, وإن نفوسهم أميل إلى تصديق الكذب, وتشويه الأخرين, ممن لا يجاريهم في الطعن على الناس, أو الخوض في أعراض الأخرين, وما خفي عني كان أعظم وأشنع مما سمعت, ولو أنهم علموا مني عكس ذلك, ولو جاريتهم فيما يقولون أو يفعلون, لربما هابوني ولم يطعنوا, ويفحشوا في القول عني, مخافة أن أذكرهم بسوء في كل مقام, وفي كل نادي, تلك هي طبيعة أغلبية الناس حين يروا واحدا يعيش بينهم, لا شأن له بأفعالهم المريبة, وأقوالهم الكاذبة, وإنهم دائما ما يلوثون الأنقياء من الناس, ويقذفونهم بما ليس فيهم, لأن ذلك يصغرهم في عين أنفسهم, قبل أعين الأخرين, فهم أضعف من أن يسيروا سيرتهم, أو يتأدبوا بأدبهم, لذا وجب على كل إنسان أن يأخذ نصيبه من التجربة, ليعرف ما تحمله نفوس الناس, فلا يجاريهم, ولا يجعلهم يستغفلونه, وإن كان الأمر في هذه الحالة أيضا موجع, فوجع التجربة أفضل من ذلك الألم المبرح الذي يفاجيء به الإنسان إذا ما اضطرته الظروف, ليتعامل مع الناس ويحتك بهم, ولا مناص من ذلك إن عاجلا أم أجلا, فإذا أردت أن تأدب بنيك, فلا تحجبهم عن التجربة, مخافة أن تؤثر على سلوكهم إلى الأسوء, ولكنهم يجب أن يخوضوها, مع التعقيب على ما يحدث من أحوال الناس ومعايشهم, وأن يكون ذلك حافز له ليغير من المحيطين به إلى الأفضل, لا أن يتغير هو إلى الأسوء, فعلمه بذلك يدفع عنه مسبة الجهل, واستغفال الناس له, لعدم خوضه التجربة.