الفصل الثاني عشر
"الأعاصير أبدًا لا تدق النواقيس! الأعاصير تهب في لحظة، تفاجئ من ينامون على فراشهم في غفلة وتقتل من يبتسمون حتى قبل أن يغلقوا أفواههم"
جثا سامر على ركبتيه باكيًا، والغصة تزداد ثقلًا في حنجرته، أخذ ينشج بصوت كسير، والممرضة تحاول أن تخبره، لكنه انهار تمامًا، فلم يتخيل رحيل شيرين بهذه السرعة، لم يعد له أحدًا في هذه الحياة، وقف يصرخ وركل باب الغرفة بقدمه، وخلفه الممرضة التي تتعجب لأمره، وتحاول أن تشرح له الأمر، ارتمى باكيًا على جسد شيرين الملقى على سرير المشفى مرددًا: لماذا تركتيني يا شيرين؟ لم يعد لي أحدا، لا تتركيني وحدي.
حاول الطبيب أن يجذبه بعيدًا عن شيرين، لكنه رفض وتعالت صرخاته وسط دموعه الغزيرة، فتدخلت الممرضة وجذبته مع الطبيب بعيدًا.
تجهم وجه الطبيب متوعدًا إياه: إن لم تخرج حالًا سأطلب الأمن ليخرجك عنوة، المريضة لا تتحمل ذلك الجهد والتوتر، اهدأ وتحلى بالصبر، ماذا تفعل؟! يجب أن تكون قويًا لتعينها على مصابها، فقدت جنينها نتيجة التسمم وكادت تفقد حياتها.
ثم ربت على كتفه مواسيًا إياه: البقاء لله، عوضك الله خيرًا، والحمد لله على سلامة زوجتك.
وقف سامر صامتًا مذهولًا، حاول استيعاب الأمر ثم خر ساجدًا شكرا لله على سلامة شيرين مرددًا: الحمد لله، الحمد لله، ظننت إنكِ...ولم يكمل كلامه، واقترب من شيرين وقبّل رأسها.
رن هاتفه وظهر اسم علي بالشاشة، رد عليه وأخبره أنه بالمشفى مع شيرين، لم تمر ساعة حتى حضر علي مع سارة، واقتربت سارة من شيرين تطمئن عليها مرددة بنبرة غاضبة: لا حول ولا قوة إلا بالله، خرجت من المشفى أمس لتحضر اليوم، ماذا حدث يا سامر؟! قلبي غير مطمئن لما يحدث معكما!
صمت سامر برهة، وبدا عليه بعض التوتر قبل أن يرد: لا أعلم ماذا حدث، هل حظي العثر الملازم لي؟! أم كُتب عليّ الشقاء وعدم الراحة أبدًا؟! يارب رحمتك بنا.
اقترب علي منه وربت على كتفه مواسيًا إياه: استغفر الله أخي، لا تقل هذا الكلام، كل ما يأتي من الله خير، إنه ابتلاء وأنت أهلًا له، أطمئن، درجاتك تُرفع مع كل ألم، الشوكة تشاكها في قدمك فتحتسب فتُؤجر، فكيف وقلبُك يشاكُ بآلام لا يعلم بها إلا الله، اصبر أخي تُؤجر كما قال الله تعالى (وجزاهُم بما صبروا جنةً وحريرًا).
حاول سامر أن يخفي ما بداخله من نيران تشتعل، وهو يغالب غصة علت حنجرته كما لو أنها لن تتركه، بدا وجهه شاحبًا حزينًا، بلع ريقه، وحبس بكائه، شعر باختناق، ود لو صرخ وغادر المشفى، ولكنه تمالك نفسه وجلس قبل أن يسقط مغشيًا عليه من شدة التعب. لاحظ علي شحوبه وتعبه، ذهب وأحضر له بعض الشطائر وكوبًا من العصير، وأخبره بضرورة تناوله ليستطيع الوقوف.
مرت ساعات حتى فاقت شيرين، فتحت عيونها لتجد سارة، سقطت دموعها وهي لا تذكر كيف جاءت إلى المشفى ولا ماذا حدث، لكنها حزينة على حالها، لم تعد تتحمل كل هذا العذاب، فقد والديها وحيرتها وحزنها وتعبها، فلم ترتاح يومًا منذ زواجها! تأوهت فجأةً فارتعبت سارة، ونادت على سامر ليحضر الطبيب، كان ألمها الأشد نفسيًا أكتر من جسديًا، تود أن تستريح بعد عناء طويل، تود أن تهدأ العاصفة التي هبت على حياتها بقدوم سامر، هل حقًا هو سبب ذلك؟! لكن لماذا يؤذيها ويعذبها ؟! عادت لحيرتها وعذابها والأفكار التي لا تهدأ برأسها، ودت لو أعطاها الطبيب منومًا لتغيب عن وعيها وترتاح من طنين الظنون.
دخل سامر مع الطبيب فانهارت وتعالت صرخاتها، أعطاها الطبيب مهدئًا لتستريح، سالت دموع سامر حزنًا على حالة شيرين، تمنى لو كان مكانها وحمل عنها كل آلامها وعذابها.
استسلمت شيرين لنوم عميق، وظلت سارة بجوارها، تنظر إليها بأسى وحزن على حالها؛ تبكي خوفًا من أن تفقدها كما فقدت أمل وأحمد من قبل. تتذكر أحمد أخيها، وكيف كان بعد موت أمل ولولا إيمانه القوي وعقيدته لاستسلم للحزن والخوف مثلها وغرق في بئر الاكتئاب، لكنه عكف على حفظ القرآن وبرد قلبه بالعمرة والحج له ولها، حاولت أمها معه كثيرًا لكنه رفض العودة لمصر، ورغم إلحاح والدتها رفض الزواج مرة أخرى وعاش على ذكرى حبه لأمل حتى لحق بها ودُفن في مكة، خير بقاع الأرض؛ جزاءً لصبره.
خرج سامر مع علي، ساد الصمت بينهما طويلًا لم يقطعه إلا صوت أذان المغرب، قام علي للذهاب للصلاة بينما تردد سامر في الذهاب متعللًا ببقائه بجوار شيرين وخوفه عليها، لكن خوفه كان من أن تمتد لها يد ربيعة بالشر مرة أخرى، ظل علي يقنعه أن يذهب يصلي ويدعو لها بالشفاء، فهي مع سارة وكلتاهما في حفظ الله ورعايته، فذهب معه على مضض، وذهنه مشغول بشيرين، وعقله شارد في كيفية الانتقام من ربيعة وإبعادها عنها.
مر يومان ثقيلان على سامر، وشيرين طريحة الفراش بالمشفى، وسامر وسارة يتناوبان على رعايتها، حتى تحسنت وأذن لها الطبيب بالخروج في صباح يوم الجمعة.
وصلوا إلى الشقة، تركها سامر مع سارة، ونزل لأداء صلاة الجمعة مع علي، وصلا المسجد (نفس المسجد الذي اعتاد الصلاة فيه مع والده رحمه الله)صلى إلى جوار علي ركعتين، وجلسا يستمعان للخطبة، شرد سامر ومر شريط الذكريات أمامه:
"كان أبي طبيبًا، حافظًا للقرآن، وأنا أيضًا كنت أحفظ نصف القرآن، كان يوم الجمعة عيدًا لنا، أذهب مع والدي للصلاة، أتذكر خطبة الجمعة التي كان يلقيها هنا، هذا المسجد الذي شهد لعبنا وصلاتنا مع أباءنا، وقتها كنا نعيش في مودة ورحمة وتراحم بيننا وبين جيراننا وأهلنا، أتذكر شهر رمضان وروحانياته، صلاة العيد وتكبيراته وملابسنا الجديدة والبالونات الملونة التي كنا نتسابق للحصول عليها، كل الأشياء التي كانت تسعدني صارت تؤلمني ذكراها وتبكيني بحرقة"
انتبه من شروده على صوت الإمام، عندما جذب انتباهه كلمة السحر.
كان الإمام يردد:
الذين يذهبون إلى السحرة والمشعوذين ليطلبوا منهم أن يسحروا غيرهم من أعدائهم أو أصدقائهم؛ فمن سلك هذا المسلك فهو ظالم لنفسه معتدٍ أثيم غايته الانتقام من أخيه المسلم، يذهب إلى هذا الساحر ليفرق بين فلان وفلانة أو يمنع فلانًا من الزواج بفلانة أو أن ينفر فلانًا من أهل بيته، وفي الحديث "ليس منا من تطير أو تُطيِّر له أو تكهن أو تُكُهِّن له أو سحر أو سُحِر له"
سحر وحسد وحقد وظلم لأن فلانًا تزوج فلانة أو لأن فلانًا أنعم الله عليه بما أنعم وأعطاه ما أعطاه؛ فليتق الله هؤلاء جميعًا وليستغفروا الله وليتوبوا إليه.
ومن ادّعى علم الغيب فقد كفر، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من أتى عرَّافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"
نعم يا عباد الله، فليخش هؤلاء الذين يتعلقون بالسحرة والمشعوذين أن يكون ذلك ثمن دينهم وإيمانهم، وليتفكروا فما بعثهم على ذلك وما دفعهم إليه إلا سوء ظنٍّ بربهم وخلل في عقيدتهم وقد علموا أن السحر من عمل الشيطان.
وانتهت الخطبة بالدعاء.
تأثر سامر بشدة وتساقطت دموعه خوفًا وندمًا، شعر كأن الخطبة مخصصة ومعدة له، شعر إنها رسالة من الله إليه، ليخرجه من الظلمات إلى النور، وينير بصيرته بالحق ويبعده عن الباطل.
صلى خلف الإمام وخرج مع علي، وهو يحاول إخفاء حزنه وألمه، لكن علي فاجأه بسؤاله: لماذا بكيت بشدة أثناء سماع الخطبة؟! ماذا يحدث معك؟! أتمنى أن تحكي لي لأستطيع مساعدتك، اعتبرني أخًا لك واطمئن.
هنا يرن هاتف علي، يرد ليجد سارة مفزوعة: تعالى بسرعة يا علي، هناك شخص ...!! وانقطع الاتصال، هرع سامر مع علي إلى الشقة، ليجدا شابًا يقف أمام باب الشقة ويحمل طردًا مغلفًا باسم سامر، تردد سامر في استلامه، وبدأت الظنون تغالبه، ود لو مسك الشاب وحطم عظامه، لكن علي منعه، استلم الطرد على مضض ودخل الشقة، ليجد سارة قلقة فقد رفضت أن تفتح الباب، بينما انقطع الاتصال معه بسبب الشبكة، استأذن علي وسارة وصعدا إلى شقتهما، فقد شيد لها والدها شقة مثل أخيها، وأصر على زواجها بها، لتكون معهما خاصةً بعد سفر أحمد.
مرت دقائق وسامر يحمل الطرد ويقف صامتًا، بينما شيرين تنظر إليه، وكلها شغف أن تعرف ما بداخله. تشجعت شيرين وبدأت الحديث: لماذا تقف هكذا؟! اجلس وافتح الطرد لنرى ما به!
استمع لها دون أن يتكلم وجلس في صمت والخوف يتملكه، وفتح الطرد ليُصدم مما رأى، كانت جثة قطة سوداء مذبوحة، ما إن رأت شيرين المنظر حتى تعالت صرخاتها الهستيرية، وانتفض جسدها رعبًا وفزعًا، ضمها سامر محاولًا تهدئتها، واتجه بها نحو الغرفة خوفًا أن تسمع سارة صراخها فتعود، فلا ذنب لهما فيما يحدث فكل يوم معهما في المشفى، ابتعدت شيرين من بين ذراعيه منتفضة، ومن بين دموعها توجه إليه تهديدها: اسمع يا سامر، إن لم تحكِ لي كل شيء الآن؛ فلن أبقى معك ثانية واحدة، من هي ربيعة؟! وما هذا الجو المرعب؟! ومن أنت؟!
صمت قليلًا ثم بدأ حديثه وشيرين في حالة إصغاء شديدة له.
-لا أدري ماذا أقول لكِ! فخوفي عليكِ ما يمنعني عن البوح لكِ بالحقيقة، صدقيني أنا سامر صديق الطفولة، وزوجكِ وحبيبكِ، لكن منذ رحيلي مع والديّ حتى الآن حدث ما لا يُحكى ولا يُوصف، ما مررت به من الألم والفقد واللعنة التي تطاردنا الآن، لا أريد لكِ أن تعيشي وتتألمي وتعاني ما عانيت يا شيرين، لكن طالما هذه رغبتكِ، سأحكي لكِ كل شيء.
وبدأ يروي عليها كل ما حدث معه وهو يذرف الدموع مما عانى في حياته فالألم قدره والحزن نصيبه، اقترب من شيرين وضمها بحنان وسط دموعها و انهيارها التام محاولًا أن يهدأ روعها، وهو يقول: أعذريني يا شيرين، حاولت أن أخفي عنكِ هذه الحقيقة، وأنتِ تصرين على معرفتها.
خفق قلبها بسرعة، وهي تقاوم غصة علت حنجرتها، خارت قواها بسبب الارتجاف الذي استبد بجسدها، فتشبثت بحضن سامر، كأنها تختبأ به من شرور العالم، أحست بأنها تفقد توازنها وأن أنفاسها تتقطع وعلى وشك أن تختنق. مرت صور والديها وأمل أمام ناظريها؛ فبعدت عن سامر قليلًا وسندت رأسها على الأريكة وقد غلبها التعب، أسرع سامر إلى المطبخ وأحضر لها كوبًا من العصير، تناولته على مضض، ابتلعت ريقها والتقطت أنفاسها وهدأ روعها، وسامر يربت علي كتفيها مواسيًا إياها، فهو يعرف ذلك الشعور، شعور فقد أعز الناس واكتشاف الحقيقة المؤلمة بأنهم قُتلوا بيد باردة، وأن من قتلهم ينعم بالعيش حرًا بلا عقاب، تلك الساحرة لا زالت تهددهم وتطاردهم بسحرها وشياطين الأنس والجن التابعين لها.
تحدث إلى نفسه بأسى "هل أكمل لكِ يا شيرين؟! إن ما عرفته بعد ذلك، قلب حياتي جحيم، سمعت ربيعة تتحدث مع أحد أعاونها عني، عرفت أنها من دبرت حادث موت والديّ، والسبب أن والدتي ذهبت إليها تهددها وتتوعدها بالإبلاغ عنها، عند علمها بذهاب غالية لها من أجل الإنجاب مرة أخرى، وعندما واجهة ربيعة بما سمعتُ، ربطتني بالسحر والشعوذة وألجمت لساني، كيف ستتحملين يا شيرين كل هذا؟! أتألم كلما تذكرت ذهاب والدتكِ لتلك الساحرة، وأتساءل هل حدث معها مع يحدث من جرائم زنا، هل استغلتها ربيعة؟! هل أنتِ... يا ربي لا أتحمل المزيد من الصدمات! معقول تكوني يا شيرين ابنة حرام؟!"
تساءل سامر وهمس إلى نفسه "الآن ماذا عليّ أن أفعل؟! أريد الانتقام من ربيعة فقد دمرت حياتي بشرورها، ولكن كيف؟ أخاف على شيرين من بطشها، لا بد أن أجد حلًا سريعًا".
غفت شيرين مكانها من شدة الارهاق والتعب، حركها برفق ووضع وسادة أسفل رأسها ومدد جسدها علي الأريكة، وجلس إلى جوارها يراقب ملامحها المتعبة، وما حدث لها بسببه، تمنى لو إن كل ذلك كابوسًا وانتهى.
ظل يفكر، ويفكر؛ حتى تعب فغلبه النوم، ليستيقظ على صوت ارتطام وضجة آتية من داخل المطبخ، توجه بسرعة ليرى ماذا يحدث قبل أن تستيقظ شيرين مفزوعة، بدأ خطواته نحو المطبخ ليجد قطرات دماء تملأ الأرض، عندما وصل المطبخ فزعه ما رأى، وجد القط الذي ألقى به من النافذة بعد لفه جيدًا، ملقى في المطبخ وسط بركة دماء، وقف مصدومًا فزعًا، تأكد من أن ذلك من أفعال ربيعة، يباغته سكينًا يطعن ظهره؛ يلتفت ليجد شيرين تقف أمامه وبيدها السكين!