جنب محطة مترو "العتبـة"، عند تقاطع دايما زحمة، بين أصوات الباعة والمزيكا اللي طالعة من سماعات القهاوي، فيه كشك صغير مش باين للي بيمشي بسرعة، لكنه مزار ومأوى للي بيشوف ويركز، صاحبه "محمد حسين" بيفتح الكشك من طلعة النهار.
محمد، رجل في أواخر الأربعينات، نحيف زي سطر في كتاب قديـم، ملامحه هاديه، عينيه فيها حاجة مش بتتقال لكن بتتحـس، دقنه خفيفة مهذبة، لابس جاكيت أزرق قديـم لكن أنـيق، دايما في إيـده كتاب.
اللي يعرفه كويس يعرف إن جواه مكتبة، وإنه بيقـرا أكتـر ما بيتكلـم، مش مجرد بائع كشك بسيط، "محمد" دايمًـا ذهنـه حاضر أول بأول.
جوا الكشك، تحت الراديـو، ورا علب المناديل، فيه درج مقفول، فيه كتب ورقها باهـت زي "الخبز الحافي"، "تأملات ماركوس أوريلبوس"، و"قلب الليل" وغيرهـم.
وفي النص، قدامه بالضبط دفتـر رمادي بيكتب فيه يومياته، أو بيكتب اللي يجـي على باله، زي ما يحب، قصص، أمثال أو مجرد جُمل لها معنـى كبير عنده، يعنـي كل اللي بيجي على باله ييكتبه، مسميه "أرشيف الصامتين".
بيفتح الكشك الساعة 7 وهو بيسمع إذاعة القرآن الكريم، بعدها بساعة بيشغل إذاعة البرنامج الثقافي، بيرص الحاجات بعناية، أكياس اللب، السجاير، أكياس عيش، جرايد قديمة، نسخ مستعملة من كتب نجيب محفوظ، ويوسف إدريس وغيرهـم.
النهارده مثلًا كتب:
"الشوارع بتجري والناس بتجري وراها، بس دايما فيه حكايات ماشية على مهل، بشويش خالص، من غير تِتــر ولا مزيكا، حكايات حقيقية بتحصل، بتحصل كتيــــر أوي".
الساعة 8 إلا حاجة بسيطة، وقف طفل عند الكشك. لابس بنطلون بني وقميص بيج، باين إنه لبس مدرسة، شايل شنطة متهالكة، وِشُّـه فيه إرتباك أكبر من سنــه.
محمد من بصة واحدة في وش الولد عرف إنه من الناس اللي الدنيا جايـه عليهم، وبتعدي تُفرُمهـم من بــدري!
الولد وقف قدام الكشك ما قالش حاجة، بس عينه راحت على رف العيش.
محمد قال: صباحك فُــل، إسمك إيه؟
: ياسيــــن.
: معاك كام يا ياسين؟
: معايـا جنيــــه.
: عايز تاكل؟ ولا تاخـد عيش للبيت؟
: للبيت... ماما قالتلي أجيب رغيفين للغـدا، بس أنا جعان دلوقت.
"محمـد" سكت لحظة، بعدها فتح كيس العيش، طلع آخر رغيفيــن.
لف واحد في ورقة صغيرة، حط التاني على سخان الكشك، اللي بيعمل عليه الشاي. بص ل"ياسين" وقال: الرغيف ده للبيت، والسُخن ده ليك، تاكله دلوقت.
الولد تردد، واقف محتـار، قال : بــَــــــــس.....
: مفيش بس، لما الجوع ينط من بطنك لعينيك يبقى مفيش مكان ل "بــس".
الولد ابتسـم، قعد على طوبة جنب الكشك، أكل العيش كأنه بيقرا سورة قصيرة قبل ما يدخل لجنـة إمتحـان.
بعد شويـة، "محمد" فتح إزازة حاجة ساقعة، مـد إيــده لياسين.
: خُـــد بلَّـــع اللُقمـــة.
: شكرا يا عمـــو.
: بالهنـــــا يا ياسيـن.
"ياسين" قعد يتأمل الكتب المرصومة، سأل "محمـــد": حضرتك ليه عندك كتب؟
: عشان أفتكر الحكايات اللي قريتها.
ياسين سأل ببراءة: أنا شايف كمان دفتــر وقلــم، هو حضرتك بتكتب؟
: يـــووه، كتيـــــــــــر، ماتعِـدِش.
: طب هتكتب عنــــي؟!
: كتبت يا حبيبـــي
مـد ياسين إيـده سلِّــم على محمــــد: مع السلامة يا عمـــو
: ابقـى تعالـــى يا ياسيـــن.
اومأ "ياسين" رأسه وهو بيقول: حاضــــــر. ومشــــي.
رجع "محمـد" للدفتر وكتب:
"ياسين، سبع سنين، رايح مدرسته جعان، عيش حاف كان كفاية بالنسبة له، راضــــي ومش زعــلان، بس الأكل مش كل الحكاية، ياسين أول طفل شاف الكتب ولمحهــا قبل السجايـــر، ويارب مايكونش الأخيـــــر، هات العواقب سليمة يـارب".