بسم الله الرحمن الرحيم
"البنت" كانت هتتجنن، كل شوية تبص للرسمة وتنزلها تاني، فضلت تكلم نفسها:
"اللي بتدعي إنها أبلة "نعمة" أكيد "قاهرة" عشان كده كلامها جذاب وغريب، مش زي أي حد، بتحكي الماضي بدقة عجيبة كإنها عاشته، كانت جزء منه، عاشت عهود كتير، حتى لهجتها كل شوية بتتغير، شوية تحسها ريفية، وشوية صعيدية، وشوية من بحري وشوية قاهرية، وشوية عربية! ألفاظ من أماكن مختلفة، الفاظ أعرفها والفاظ معرفهاش!"
أبوها دخل عليها وهي منتبهتش ليه وعشان كده اتفزعت لما لمحته....
سألها:
-ايه لسه صاحية لحد دلوقتي، هيمانة في حب شاب ولا ايه؟
-لأ بوضب حاجتنا..
لون وشها كان اتحول للأزرق وعنيها بقت حمرة، زي ما تكون شافت شبح!
سألها بقلق:
-مالك يا بنتي؟
لمح الورقة اللي كانت في إيديها، سحبها وشاف الورقة....
قال:
-ايه ده انتي عترتي على قاهرة؟!
-حضرتك تعرفها؟ قصدي تعرف حكايتها؟
-اه طبعًا ومين ميعرفش!
-ايه حكايتها؟
-جدتك دي عملت معاهدة مع الشيطان!
-جدتي؟؟؟؟
-هي دي الإشاعة اللي كانت طالعه عليها، عشان يقال إنها فضلت عايشه كتير، ومكنتش بتكبر أبدًا، في يوم قررت تهرب خوفًا من أهل حيها ومن أهل القاهرة، بنتها كانت بتولد في نفس اليوم، وبعدين إختفى أثرها وفي شهادات ناس قالوا إنهم شافوها في السودان وفيه قالوا شافوها في ليبيا وفي قالوا في لبنان، والشهادات دي كانت على مر الأزمنة، عاشت كتير أوي والسبب مش معروف، عشان كده الناس استنتجت إنها عملت معاهدة مع الشيطان...
-طب وحصلها ايه بعد كده؟
ضحك الأب ورد:
-انت صدقتي ولا ايه؟ دي كلها هجايص، ولا عاشت مئات السنين ولا عملت معاهدة مع الشيطان ولا فضلت شابة مكبرتش، تخاريفنا كتير يا بنتي ..طب أقولك ، الرسمة اللي في ايدك دي كل بيت في العيلة خاف ياخدها عشان كانوا بيقولوا إنها ملعونة، ما هي رسمة بتضم اللي اتعاهدت مع الشيطان بقى، وانا الوحيد اللي قبلت أخدها واحتفظ بيها، وبقالها معايا ييجي عشرين سنة ولا في لعنة ولا سوء طالع ولا يحزنون، بالعكس خير ربنا مغرقني والبيت حي والضحك فيه مش بيبطل حتى الجيران بيشتكوا منا والحي كله يسمع حسنا...
-بابا ممكن تحكيلي كل حاجة تعرفها عن قاهرة، كل الحكاوي يعني اللي اتقالت عنها وعن أسرتها..
قرب منها وباس راسها ورد:
-حاضر يا بنتي، إن شا الله نحكي طول الليل..
لما جه النهار "البنت" اتقوقعت كده في نفسها ومرضتش تسيب السرير، إدعت إنها مريضة من خوفها تواجه الشبح في المدرسة، افرض قاهرة أفشتها وأدركت إنها عرفت سرها وعرفت إنها شبح، ممكن تعمل فيها إيه؟ يمكن عشان شبح تقدر تشوف من خلالها، تشوف قلبها وهو بيتنفض وتقرا كمان أفكارها.................
************
"قاهرة" أخدت بالها إن تختة "البنت" كانت فاضية، سألت زميلاتها وعرفت إنها غابت....
أصلها خلاص كانت حفظتهم واحدة واحدة....
وكانت كمان قلقانة ، ولسبب مجهول كانت حاسه بوحدة وفراغ، كلامها ممنوش فايدة، الحصة ضايعة، ناقصها عنصر مهم، في حاجة غامضة خلتها تتعلق بالبنت دي بالذات أكتر من باقي البنات....
تو ما الجرس ضرب والحصة خلصت، "قاهرة" جريت بره الفصل، وراحت على أوضة المدرسات واتصلت بتليفون بيت "البنت". أم البنت هي اللي ردت وقالت إنها عيانة وإنها هتروح المدرسة تاني يوم....البنت كانت مستخبية، واقفة بتسمع المكالمة، كانت بترتجف، خوفها زاد أضعاف، كل اللي جه في بالها إن "قاهرة" عرفت، وإنها ناويلها على شر.
مقدرتش تكمل الدور التمثيلي ده كتير، وراحت اليوم اللي بعده، أنفاسها كانت مضطربة، قلبها الصغير هينخلع وكان لازم تواجه مصيرها.....
...............................
"قاهرة" أول ما شافت البنت جريت عليها، البنت ملحقتش تدخل الفصل....
"قاهرة" وقفتها وهي بتلهث وقالت:
-انتي كويسة يا بنتي؟!
ااااه، دلوقتي زمانها بتقرا أفكارها وعرفت اللي فيها...
ردت عليها:
-ااانا...كويسة يا ابله..شكرًا يا ابله
=لاااا انتي وشك مخطوف على الآخر، مفيش غذا كفاية ولا ايه..
استغلت البنت قرب "قاهرة" ليها ومدت إيدها بتحسس عليها!
"قاهرة" طبعًا اندهشت من تصرف البنت، وابتسامتها وسعت وسألت:
= ايه ده، إنتي بتشوفيني حرارتي عالية ولا إيه؟!
-أصل حضرتك وحشتيني يا ابله.
البنت ابتسامتها برضه نورت وشها، وده عشان اتأكدت إن "قاهرة" مش شبح، ما هي قدرت تلمسها أهو، بس.....هو ده معناه إيه؟
الوضع ده أغرب بكتير، معنى كده أنها فعلًا عاشت كل السنين دي وإن الإشاعات حقيقية، اتعاهدت مع الشيطان بحق وحقيق عشان تعيش كل الحياة دي؟
البنت ملحقتش تفكر كتير، "قاهرة" ضمتها ليها، وهي حست بدفا غريب، دفا عمرها ما حسته إلا في حضنها، لا حضن أبوها ولا أمها ولا حد من قرايبها ولا صاحباتها، بالحضن البسيط ده اتأكدت إن "قاهرة" مش ممكن تكون اتحالفت مع الشيطان، اللي يتحالف معاه مش هيبقى عنده الدفا والإحساس العالي ده...
*************
اليوم اللي بعده، البنت كانت حاضرة وقاعدة على تختتها، جت حصة التاريخ، و"قاهرة" ابتدت تتكلم بالحماس المعتاد بتاعها، وجهت سؤال للبنات:
=لو كنتم مش نفسكم تحبوا تبقوا أنهي شخصية تاريخية؟
واحدة ردت:
-نابليون
والتانية:
-نفرتيتي
أما البنت فرفعت إيدها قبل ما تجاوب و"قاهرة" سمحت لها تتكلم:
-أحب أكون قاهرة!
البنت كانت باصة في عيون "قاهرة"، عنيها مش بتزوغ عنهم، أما "قاهرة" فاتحولت لتمثال، حتى نظرتها كانت جامدة، مبرقة في البنت....
اتقفشت، بعد العمر ده كله، واللي قفشها بنت صغيرة، عرفت تعمل اللي معملوش الكبار لمئات السنين!
بلعت ريقها بالعافية وسألت:
="قاهرة"؟
-اه، عايزه أبقى "قاهرة"..
"قاهرة" حاولت تعمل عبيطة، أو كانت بتحاول لسه تقنع نفسها إن سرها متكشفش....قالت للبنت:
=إشمعنى القاهرة، ليه مش مكان تاني؟
-عشان قاهرة مش بتشيخ!
"جومانا" قاطعتني وسألت:
-هي قاهرة ليه كانت لسه بتهرب؟ بتهرب من إيه؟ ليه لسه خايفة؟ مش خلاص الناس اللي كانت خايفة منهم ماتوا زمان؟ جوزها وجيرانها والسكان حواليها؟
رديت عليها:
=بس الناس هي الناس يا "جومانا".
-يعني إيه؟
=يعني الوحوش اللي جوانا، بنغلفها بأشكال ونديها أسماء مختلفة، بس في الآخر هي واحدة.
-مش فاهمة.
=يعني مثلًا "قاهرة" كانت خايفة في أول عهد ليها من سكان الحي اللي كانت عايشة فيه لحسن يحاكموها ويقتلوها بتهمة ممارسة الشعوذة واللجوء للشيطان اللي بيدعوا إنه إداها أكسير الخلود والشباب، وبعدين بقت خايفة لما جه عصر الحروب والفتن والجبهات العالمية إنهم يستخدموها بطريقة ما في الحروب دي لو عرفوا سرها، ما هو مهما حصل مش بتموت! ممكن بطريقة يحولوها لسلاح، وبعدين جه عصر العلم، عالم اسمه آينشتاين على سميرة موسى واللعب في هندسة المخلوقات وأشي مش عارفة تجارب نووية وغيرهم وغيرهم وهي كان هتبقى أعظم اكتشاف فيهم كلهم، مفيش حاجة مبهرة زيها، الإنسان اللي مش بيموت ولا بيكبر، في نظرهم هتبقى إنسان خارق مفيش حاجة تقدر عليه، ولما يمسكوها بقى أكيد كانوا هيعاملوها كإنها فار تجارب، أو بلاش كل ده، ممكن تتمسك ويتعمل بيها عروض في السيرك ولا تتحبس في قفص في جنينة زيها زي الحيوانات بالظبط، وياكلوا من وراها سبوبة، مش كل
ده حصل لناس تانيين على مر التاريخ، مش في بني آدمين اتعاملوا كإنها جماد مش بيحسوا ولا عندهم أحلام ومشاعر زي الباقي لأي سبب بقى، مخاوف "قاهرة" كانت رهيبة، وكل يوم على مدار القرون اللي عاشتها مخاوفها كانت بتتجدد وبتنهش فيها، كإنه عذاب أبدي، تعرفوا في أسطورة في بلاد بره، الأسطورة بتحكي عن راجل كان اسم الله عليه ذكي كده ونبيه قدر يخدع الموت لما طلب منه يجرب الكلبشات وقام الراجل ده اللي إسمه "سيزيف" ساب الموت متكلبش ومشي وسابه، وده أغضب ملوك الكون، فحاكموه، تخيلوا عقوبته كانت إيه؟ إنه يعيش للأبد! ويعيشها إزاي؟ يطلع على جبل وهو بيطلع يفضل يدحرج في صخة كبيرة لحد ما يوصل فوق، للقمة، والصخرة ترجع تاني تنزل بسرعة وهو يجري منها ويرجعوا للقاع ويفضل يدحرج فيها وهو بيطلع، وكده، من غير نهاية....مهو مش عيشة للأبد والسلام، ممكن تكون لعنة أو ابتلاء، فهمتوا؟
المهم "قاهرة" مبقتش قادرة تواصل الفقرة المرعبة دي، أطرافها كانت بتترعش، وكل جزء فيها، تجاهلت البنت وبصت للباقي وقالتلهم:
=أنا بعتذر ليكم يا بنات، مش هقدر أكمل الحصة، حاسه بشوية صداع، إسمحولي....
حيتهم وخرجت بسرعة من الفصل والبنت اتحركت فورًا وراها....
فضلت ماشية ورا "قاهرة" لحد ما بقت لازقة فيها ونادتها:
-يا "قاهرة"!
مكنش في حد حواليهم...هم بس....
"قاهرة" اتلفتت وهي مذعورة ومشيت الخطوة المتبقيةما بينهم وقالت:
=منادينيش بالإسم ده.
-ليه؟ خايفة؟
"قاهرة" ملقتش الرد اللي ترد بيه، كانت بتبصلها بغضب ورعب وذهول، اتلفتت مرة تانية وأدت للبنت ضهرها واستعدت تكمل مشي...البنت مسكتتش، جريت لحد ما سبقتها ووقفت قصادها، أجبرتها تقف وقالت:
-إيه؟ هتهربي تاني؟ رعبك غطى على فضولك؟ مش عايزه تعرفي أنا عرفت منين؟ وابقى مين؟
=أنا مخلوقة كده، عاملة زي السمك اللي بيسافر من محيط لبحر حسب المواسم، الموسم بتاعي بيخلص لما قعادي يطول في مكان، أو أحس بتهديد من حد، إنه هيكشف سري.
-صح، أتاريكي....دانتي حتى مكنش عندك فضول تعرفي بنتك ماتت ليلتها ولا كملت، نجت من الولادة وعاشت مع طفلها وكبرته ولا راحت ضحيته وهي بتجيبه الدنيا، مفكرتيش تطلي عليها بعد أيام ولا شهور ولا سنين.
هنا فقدت أعصابها، مدت إيديها وفضلت تهز في كتف البنت وسألتها:
=إنتي عرفتي كل ده منين؟ حليفة الشيطان؟
-أنا حفيدتك.
عنيها وسعت في ذهول، ابتدت تسترجع شوية مشاهد، مبدئيًا كده الشبه اللي بينها وبين البنت، الرابط الغير مفهوم وتعلقها بيها هي بالذات دونًا عن بقية الطالبات، حتى إنها كانت هتتجنن عليها لما غابت وعرفت إنها عيانة، ده غير إنها في الموقف ده حست إن المشهد مش جديد عليها، كإنه اتكرر، ديجافو، جواها، كانت مدركة إن البنت دي من صلبها، في علاقة دم ما بينهم.... بعد حالة السبات دي "قاهرة" فاقت وقالت:
=أنا لازم أمشي، لازم أمشي.
-لا مش لازم.
البنت مدت إيدها الصغيرة وهي بتقول جملتها الأخيرة، بعد ما اتحولت نبرة التحدي لترجي وانكسار وكأنها كانت على وشك إنها تعيط.
-مش لازم تهربي يا "قاهرة"، مش عايزه تعدي معايا؟ مش عايزه تعرفيني؟
=إنتي لساتك صغيرة، شوية وهتتحمسي وهتروحي تحكي لزميلاتك أو صاحبتك أو جارتك عن "قاهرة" جدتك اللي مش بتكبر، اللي عايشة من قرون، واللي مفيش مرض ولا سم بيقدر عليها، يمكن دلوقتي إنتي هتحفظي السر ومقدرة الخطر اللي أنا فيه، بس هتنسي في لحظة ضعف وهتكشفي السر، هتضعفي قدام إغراء الحكاية المثيرة، والحكاية بعد كده هتتنقل زي الجراد كده، بسرعة أوي وفي كل حته، من دي لدي لده، وربنا وحده يعلم هيعملوا فيا إيه.
البنت فضلت متبتة بإيديها في "قاهرة" ومسكتها بقت حنينة أوي، بتحاول تطمنها، بصت في عنيها وقالت:
-أنا مش هفضح سرك، أنا حتى مقولتش لأبويا، خليته يحكيلي كل حاجة يعرفها عنك، وعن ولادك وأحفادك، أنا عندي ليكي قصص كتيرة عنهم، أنا الحلقة المفقودة ما بينك وبينهم.
في حاجة في نبرة البنت خلت "قاهرة" تصدقها، مع النظرة اللي في عنيها وسحب الدموع اللي اتجمعت فيهم واللي أدتهم بريق جذاب خلى "قاهرة" مقدرتش تقاوم. "قاهرة" لقت نفسها بتوطي ليها وبتفتح دراعتها وبتاخدها في حضنها.
غمضت عيني وسكتَ لحظات وأنا بحط كفوفي على بعض وعلى صدري...
"عبد الخالق" قال:
-إنتي نمتي يا تيتا؟ ولا اندمجتي في القصة؟
=بس يا واد، أنت هتتعود عليا ولا إيه؟ لا...منمتش...الاتنين، "قاهرة" والبنت اتفقوا يتقابلوا في الأجازة من كل أسبوع في جنينة الأندلس قبل ما البنت تروح تزور صحبتها اللي كانت قريبة منها في السكن القديم زي ما هي متعودة كل جمعة، حتى بعد ما عزلوا فضلت تروحلها وبكده بقى في مساحة للبنت تروح الجنينة شوية من غير ما حد يعرف....
الاتنين في أول لقاء ما بينهم في الجنينة فضلوا ساكتين، قاعدين جنب بعض وكل واحدة سرحانة قدامها لحد ما "قاهرة" قطعت السكون ده بسؤالها:
=حصل إيه لليلى بعد الولادة؟
البنت اتفاجأت من سؤال "قاهرة"، مكنتش عاملة حسابها ومكنتش عايزه ترد، اتهربت من وشها وبعدين قالت:
-كده كده ليلى ماتت من زمان، هتفرق في إيه؟
عايزه أعرف، أنا عشت كتير بحاول مفكرش في مصيرها، عشان كان جوايا إحساس مرعب، لكن جه الوقت اللي لازم أواجه الخوف ده...
-ماتت يوم الولادة، ومعاها مولودها، مفيش نسل لليلى!
عضت شفايفها وعنيها اتملت بالدموع وقالت بصوت مرتجف:
=كنت عارفة، لما شفتها عرفت من جوايا إنها هتموت ليلتها، لما ميلت عليها وشفت وشها ولونه، مكنتش الولادة طبيعية أبدًا ومع ذلك هربت، خفت على نفسي وهربت! هي كانت عايزاني أهرب، كانت مرعوبة عليا أكتر من رعبها على نفسها، هي اللي كانت أمي يومها، أنا اللي المفروض أم، فضلت سلامتي على سلامتها، كانت لازم أفضل، الأم بتبدي ضناها على نفسها مش تنفد بجلدها...
البنت سألتها:
-كان سنة كام؟ فاكرة؟
=1551..
البنت مددت جسمها على الزرع وحطت راسها على حجر "قاهرة" وابتسمت لها ابتسامة نافست الشمس في إشراقها وقالت:
-إحكيلي عن أغرب حاجة حصلتلك في حياتك الطويلة.
=أحكيلك عن إيه ولا إيه...
-أي حاجة، احكي.
=طيب هحكيلك عن الرصاصة اللي دخلت في نفوخي وطيرت عيني وعدت من الناحية التانية وسابت فراغ الناس كانت بتشوف منه! اللي حصل إني لقيت فجأة الناس بتتجمع وفوضى هنا وهناك وزعيق وصياح "الإنجليز بيتدخلوا ف كل شؤونا ، دول ناقص يتدخلوا في شؤون الراجل ومراته، لغوا الدستور ولاد الهرمة وأعلنوا الأحكام العرفية"....أنا بقى دمي فار، ده إيه الخواجة اللي جي يرمح في البلد كإنها بلد أبوه، أهدى وأكن وأخليني في حالي؟ لاااااا، متجيش، روحت ماشية أهتف زي بقية الخلق، مش كفاية الاستنزاف بتاع الحرب العالمية اللي لسه خارجين منها ، وولادنا اللي راحوا هدر، وإحنا كان نايبنا إيه من الحرب دي؟ صالحنا إيه في عركة الطلاينة والانجليز؟ شوية ووعيت على الناس بتصرخ حواليا وصايبهم الرعب وحسيت بحاجة لزجة في راسي وعماله تسيل وتغلوش على عيني، عين واحدة بس بتنزف، التانية مفيش، مش موجودة أساسًا، وسمعت عبارات من "هي الست لسه واقفة على حيلها إزاي؟"....." الرصاصة خرمت نفوخها".... " العين طارت يا ولداه"...." دي حلاوة روح، إنا لله وإنا اليه راجعون"، وأنا كان مالي ومال 19 وثورة 19؟، لازم يعني أتحمق واصرخ مع اللي بيصرخ، اهي عيني طارت من بنادق الإنجليز، بس كام يوم وبعدها بدأت الأنسجة تلم بعضها، الفراغ اللي في راسي بدأ يختفي شوية شوية ويتكسي لحم وفي يوم بصيت في المرايه لقيت حاجة صغيرة في الفراغ مطرح عيني ويوم في يوم بقى يظهر أكتر، بياض وشرايين وبؤبؤ وعين كاملة، عيني رجعتلي من تاني!
لو كنتي فاكرة دي أغرب حاجة تبقي غلطانة عشان بعدها ب 30 سنة كنت في سرايا، بعلم الولد العزف على البيانو!
-انتي بتعرفي تعزفي على البيانو يا نينا؟
=عيب عليا بعد كل العمر اللي عشته واللي شفته مكنش بعرف، وايه نينا دي مكنا ماشيين حلوين! قوليلي يا "قاهرة"...تصدقي، وحشني يا بت إسمي ومفيش غيرك بينطقه من أكتر من 400 سنة!
-وبعدين يا قاهرة حصل ايه؟
=كنت متعلقة أوي بالسرايا دي، بالأم والخدم والطباخين والغفر والجناينيه وحتى الأب، والجدران والنجف والسجاجيد والأوض البرحة، بس الإبن بالذات، الواد ده كان كل حياتي في الفترة دي، مكنش مجرد تلميذي وأنا مدرسة البيانو، كان زي ابني، بحل معاه الواجب لما يغلب فيه، بعلمه الاتيكيت وأصول الأكل والتعامل مع الكبار، أصل والدته كانت دايمًا مشغوله في نشاطاتها وجمعياتها الخيرية وإجتماعاتها مع صاحباتها وليالي القمار... فات سنتين على شغلي في السرايا، وفي يوم فاكره كل تفاصيله بالفستان اللي كنت لابساه ووشوش الموجودين ولبسهم وكلامهم وضحكهم، مقدرتش أروح السكن بتاعي عشان المطرة كانت جامدة ومغرقة الشوارع وإحنا كنا في حي مقطوع قرب الأهرامات، الست "صفية" أصرت اني أبات معاهم ومكانتش أول مرة، اضطريت كتير أبات في السرايا وكان في أوضه مخصوص ليا.... الباشا جمع كل اللي في السرايا وأصر إننا نشرب حاجات تدفينا قبل ما ننام، انا شربت شاي بالنعناع، كان طازه، لسه مقطوف يومها من جنينة السرايا...
الباشا مقعدش كتير معانا ومشي راح مشوار وانا دخلت أوضتي بعد القعدة الحلوة وحطيت راسي على المخده...
صحيت على ألم رهيب ف معدتي وجسمي كله، كأن حد جاب عصايا وفضل يكسر في عضمي، وحسيت برغبة في القيء ، ده غير الصداع والدوخة، مشيت بالعافية لحد ما خرجت من الأوضة ، رحت لأوضة الولد مش عارفة ليه، كنت عايزه أشوفه قبل ما أفكر استنجد، لقيته مرمي على الأرض ورغوة بيضة طالعة من بقه ومكنش بيتنفس، مات! بعديها مشيت في الطرقة لقيت أمه بتتلوى على الأرض، وبعديها بكذه خطوة اتنين من اللي بيشتغلوا في الخدمة بيتلووا ويستنجدوا ، نزلت السلم لقيت السفرجي متمدد على أرضية صالون من الصالونات، رغوة بيضه طالعه من بوقه ومفيش نفس، وقتها اتأكدت إننا كلنا اتسممنا، بعدين سمعت باب السرايا بيتفتح والباشا بيدخل منه، يا عيني عليك يا باشا، تمشي ساعة ترجع تلاقي دنيتك كلها متطربقة، مفيش ليك فيها حد، مراتك وابنك وكل من بسرايتك، بس لقيته مش مخضوض! ماشي بمنتهى البرود يخبط في الجثث ويتأكد أن الحياة اتسحبت منها! اخدت ساتر وانا بتلوى من الألم، بس كنت عايزه اصمد، اشوف الراجل ده ايه حكايته.. سمعته بيتكلم في التليفون وبيأكد على واحدة أن كله تم وأنهم أخيرًا هيبقوا مع بعض ويعيشوا بثروة مراته، ومن غير دوشة ابنه، وفهمت أنه بيكلم أخت مراته وانهم كانوا متفقين! وسمعته كمان بيقول لها أن السم في جيب جاكتته لسه شايله معاه!
وقعت بعدها ...وفقت على أنوار جامدة متسلطة على وشي ولقيتني بردانة أوي، جسمي متغطي بس بغطا بلاستيك ومفيش هدمه عليا، حواليا مشارط ومقصات، قعدت بالراحة ، بصيت جنبي لقيت اتنين لابسين بلطوهات وهاتك يا صريخ ... واحد منهم قعد يقول : "سلام قول من رب رحيم، انصرفي، لا تأذينا ولا نأذيكي".
فهمت بعد ما ركزت إني في المشرحة وأن دول دكاترة طب شرعي وكانوا على وشك يشرحوني وأنهم افتكروا إني عفريته..فكرت بسرعة واستغليت الموقف، قلتلهم السم اللي اتقتلنا بيه في جيب جاكيتة الباشا، الباشا قتلنا كلنا عشان يداري على جريمته الأصلية "رغبته في التخلص من مراته وابنه عشان يضم ثروتها على ثروته ويتمتع بيها مع مراته المستقبلية، أخت القتيلة، من غير دوشة عيال"، طلعوا يجروا وأنا قمت واستغفر الله أخدت هدوم واحدة ميتة على طرابيزة من طرابيزات المشرحة، ومشيت بين جدران المشرحة وأنا بترنح، أخبط في الركن ده شوية والركن ده شوية لحد ما خرجت... وطبعًا إختفيت السنين اللي بعدها بس عرفت أن الباشا اتقبض عليه والتهمة ثبتت واللي كشفه "شبح مدرسة البيانو التي أدلت على مكان السم ونوايا القاتل الذي لا قلب له، الشبح الذي إختفى مع الجثة دون أثر!..." كان مانشيت بعرض صفحة الجريدة!