في غرفته الضيقة، كانت الحقيبة تستند إلى الجدار كما لو أنها تستريح من عناء الطريق. لم تكن حقيبة سفر، بل حقيبة من العمر. جلدها تشقق كوجهٍ أتعبته الابتسامات المصطنعة، وقفلها الصدئ يروي قصة من الماضي.
جلس أمامها كمن يجلس أمام مرآة، لا لينظر إلى شكله، بل ليرى ملامح الوقت التي حفرتها الذكريات.
مرّت ثلاثون سنة منذ أن خبّأ فيها أول ورقة، كُتب عليها: "لا تنسَ أن تبتسم ولو للحظة."
كانت تلك كلماتها، قالتها وهي تمضي، كما يمضي الغيم بعد المطر، لا يحمل شيئًا سوى الوعد بالعودة.
فتح الحقيبة..
كانت رائحة الورق القديم تشبه رائحة حنينٍ لم يُغسل، تمامًا كالقهوة التي تُترك دون شرب، تظلّ تبخّر ما تبقّى من دفء.
أخرج صورة، مشروخة من المنتصف.
هو على اليمين، وهي على اليسار.
ضحكته كانت كاملة، أما هي… فكانت تنظر إليه، لا إلى الكاميرا.
كم خدعنا الفلاش! يوهمنا أن اللحظة وُثّقت، لكنه يلتقط السطح ويترك العمق مظلمًا.
في قاع الحقيبة، وجد رسائل لم تُرسل، وبعضها لم يُكتب أبدًا.
ظلت أفكارًا على هيئة ندم، تتنفس كلما فتحها.
كم من مرة أراد أن يكتب لها:
"لو عدتِ، لما قلت شيئًا، فقط... كنتُ سأبقى."
لكنه لم يفعل.
الخوف من مواجهة الماضي أشد من ملامسة جرحٍ لا يندمل.
نظر إلى الحقيبة طويلًا.
لم تعد ملكًا له وحده، بل صارت كتابًا لحياة لم تُعش كما يجب.
في لحظة صمت، حدّق في الفراغ وقال:
– هل الذاكرة نعمة... أم سجن؟
جاءه صوت داخلي، لا صوتًا مسموعًا، بل ذبذبة من الداخل:
– الذاكرة لا تسجن، نحن من نبني الجدران. الذكرى مرآة، لا قيد.
أعاد الحقيبة إلى مكانها.
لكنه هذه المرة لم يغلقها، لم يربطها بخيط الحنين،
بل تركها ... كقلبٍ مفتوح.
ثم قام من مكانه، وفتح النافذة.
الريح دخلت، وحرّكت ورقة كانت عالقة بين الغلافات.
سقطت على الأرض، وحين التقطها قرأ:
"أحيانًا، ما يجعلنا بشرًا هو قدرتنا على التذكّر، لا النسيان."
ابتسم.
لا لأنها عادت، بل لأنه عاد هو… إلى نفسه.