بجسد نحيل وعكازين يستقران تحت إبطيه، اتخذ خطوات ثابتة الإيقاع نحو شباك الخزينة داخل البنك الذي كان مكتظًا ذلك اليوم بالعملاء، متجاهلا بكبرياء نظرات الشفقة والأيادي التي امتدت لمساعدته.
على الشباك أمام الموظفة وقف مستندًا على عكازيه وقدم واحدة تظهر من تحت جلبابه الواسع الطويل، بيد مرتعشة مسح الإرهاق عن وجهه ومسد شعره الأشيب،
حرك رأسه يمينا ويسارا بقلق وتوتر بالغين متحاشيا العيون التي كانت تصتدم به كلما تلفت، مقابلًا برفض تام كل من عرض عليه الجلوس للراحة.
الجميع في انتظار وترقب وكل عميل متأهب لسماع رقمه ليتوجه للشباك المخصص لإنهاء معاملته البنكية، كان الضيق قد استبد بالرجل ذي العكازين فتكلم مستعجلًا الموظفة مادًا لها يده بما فيها من أوراق، ودون أن ترفع عينيها عن عملها نبهته أن يلتزم برقمه ودوره، فما كان منه إلا أن انفجر فيها رافضا ردها متهما إياها بالعمى، إذ كيف يقف ويأخذ دورا وهو بساق واحدة وقد أجرى مؤخرا جراحة بتر للساق الأخرى؟!
لم تتراجع الموظفة عن موقفها رغم ترقب الحاضرين، الذين تابعوا الموقف منتظرين منها لحظة إنسانية أو إشفاق على حال الرجل، معللة بأن هذا شيءٌ لا يخصها وأن عليه أن الالتزام بالقواعد وانتظار دوره، تحت ضغط النظرات المشفقة احتقنت عينا الرجل بالدموع التي أبت أن تسيل، ومع ارتعاشة جسده الغاضب انطلق لسانه مرددا أنه عميل للبنك منذ أربعين سنة ولن يلتزم بقواعد وأنها لا تسري عليه، ثم قال بتعالِ لا يتناسب مع مظهره البسيط وبلهجة مستهزئة ملوحا بالأوراق التي في يده: كيف يُعامل من جاء لسحب مئة ألف كمن جاء ليسحب ألفًا؟
مع ازدياد غضبه وتمسك الموظفة بموقفها ومحاولة العملاء المتجمعين التأثير عليها لتعدل عن موقفها، علا صوت الرجل والتفت مشيرًا نحوهم بسخرية: كل هؤلاء جاءوا للتعامل بملاليم .. أنا الأحق منهم بإنهاء معاملتي أولاً، كان باقي الموظفين قد تجمعوا تضامنا مع زميلتهم مؤكدين أنها على حق وأن عليه الالتزام بقواعد البنك، إلا أنه رفض ذلك بإصرار وانسحب مغادرا مخلفًا خلفه صوته الذي يتوعد وطرقعة عكازيه بطول صالة الانتظار، بينما شيعته العيون التي كانت مشفقة بحنق واستياء.