بسؤال ذكرني بلعبة الاستغماية التي كنا نلعبها صغارا ،فنختفي عن الأنظار منتظرين أن يجدنا أحدهم ،بدأ العرض المسرحي "هل تراني الآن" و لكن بوجة نظر مختلفة، فالبطلة هنا تبحث عن من يراها ويتفاعل معها كإنسانة ،وإن كانت استثنائية بالأفكار أو المشاعر والإهتمامات.
قدم العرض ضمن العروض المشاركة بمهرجان ايزيس لمسرح المرأة في دورته الحالية علي مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية ،لم يكن العرض تقليدي بل قدم بطريقة المسرح الدائري ،لينقل الجمهور إلي منتصف الغرفة فيصبح شاهدا علي الأحداث متفاعلا معها ،توزعت ديكورات العرض بشكل دائري بجوانب الغرفة لتتنقل الأحداث وتدور وتأخد المشاهد في رحلة لبحث عن الحقيقة ،حيث أغلقت غرفة العرض بستار بلاستيكي أشبه بستائر مواقع الجرائم ،إذن هي جريمة تبحث والجمهور شاهد ومحقق ومحلل لها!
يفجر العرض عدة قضايا اجتماعية ونفسية أصيلة ومعاصرة في ذات الوقت ،آثار التفكك الأسري علي البطلة الوحيدة بلا أب وأم ،فكلا له حياته بعد انفصالهم وزواج الأم من آخر وأنشغال الأب مع عدم درايته بأحوال ابنته، كما يناقش مشاعر التهميش والاغتراب ،فالبطلة هنا لم تري تفاعلا متبادل بينها وبين زملائها بالعمل ولا حتي جارتها التي لم تتواصل معها سوي لمصلحة غير مبالية برغبة البطلة في التأنس بها ،حتي ظهر زميلها الجديد أول شخص بادرها بتحية الصباح فوجدت لأول مرة من يراها.
كان للبطلة عالمها الخاص ،أهتمام صنعت به سعادة مؤقتة تكافأ به نفسها كل فترة ، تذكرة حفلة لفنانتها المفضلة، تدخر لتحصل عليها من فئة الvip وكأنها تحاول أن تخلق لها تميزا حتي وإن كان زائفا أو مؤقتا.
تتفاعل البطلة مع الجمهور وتشاركه استعدادها لمقابلة زميلها الجديد ،تطلب من إحدي المتفرجات أن تختار معها لون طلاء الشفاة ومن أخري أن تساعدها في ربط تنورتها وتحدد لها أن تربطها علي شكل فيونكة ،فاخيرا هي تشعر بأكتمال أنوثتها ، ولكن اللقاء جاء محبطا حين قابل زميلها حماسها بلا مبالاة وجمود واعتراف بأنه معجب بأخري.
إحباط غير متوقع يدفع بها لعودتها لصراعها النفسي بين الرغبة في الإعتياد والتأقلم وأمنية أن يراها أحدهم ويشعر بها.
لم تنوي القتل ولم تخطط له،ولكنها وجدته خلاصا لكلاهما ،
هي وزميلها، حين لبي دعوتها لعيد ميلادها لم تكن متوقعه حضوره بعد اعترافه بإعجابه بفتاة أخري، جهزت حفلتها لها وحدها ،وكان حضوره قدري ليتحدث معها لأول مرة عن مشاعره الدفينة حول خوفه من الوحدة ورغبته الدائمة في الإنتحار، فلم تجد هدية تكافأ بها لفتة قدومه لحفلتها إلا إنها تحقق له أمنية تراوده!
البحث عن الترند هو الحل ،في شكل موازي لشخصية زميل العمل تظهر شخصية المذيع الساخر برمزية الواقع الافتراضي فيخرج تارة من وراء شاشة التلفاز ويظهر في مشاهد كمعلق علي الأحداث ليحاور الجمهور في تفاصيل العرض تارة أخري، ظهر أيضا في شخصية المحقق بالجريمة والمزين لها ، علي أنها الخلاص من حالة التجاهل ،حين تقتل وتصور الجريمة ستصبح نجمة مشهورة علي وسائل التواصل الاجتماعي ،كل الجرائد ستكتب عنها ،ولكنها شهرة مؤقتة أنتهت بحبس البطلة وإن كان سجنا رمزي بشفافية الخيال .
استطاعت مؤلفة العرض ومخرجته لبني المنسي أن تصنع فضاءا افتراضيا من الفوضى الخلاقة في حركة دائرية لدائرة القدر ، حمل العرض فلسفة الخلاص من خلال الموت ، و برعت في صياغة مشاعر الأنثي عندما تكون مهمشة ، إختيار تقنية المسرح الدائري لم يكن عبثا بل كان عملا علاجيا للجمهور ليتفاعل مع الأحداث و يدور بكراسيه حولها ولعل مشقة تلك الحركة كان المقصود بها إشراكهم بالمعاناة ،وجعلهم فردا من أفراد الأحداث.
ليديا فاروق قدمت دور الفتاة والتي لم تكن تحمل اسما ،فربما تكون أي شخص موجود خارج الغرفة أو داخلها، برعت ليديا في تقديم دورها بحضور ولياقة بدنية حيث تنقلت بين الجمهور بخفة طفلة وطلة مميزة ،وكما تنقلت بجسدها بخفة تناولت المشاعر المختلفة للبطلة بتمكن عال.
الزميل الخجول ضحية العرض قام به ابانوب بحر وتميز بأداءه ،بين مرحلتي الحياة والموت ،لم يخلو الأداء من خفة ظل ظهرت في مشهد تمثيله الافتراضي لصوت والد البطلة وهو علي كرسيه المتحرك .
شخصية المذيع الساخر ،رمز الغواية بالعرض قدمها ماركو نبيل بقبول ملحوظ وإدارة حوار جيد ولطيف مع الجمهور .
تعتبر السينوغرافيا بطلا أساسيا في العرض حيث تميز الديكور بالتنوع برغم بساطته ،من تنفيذ ماري جرجس و ابانوب بحر ،كل جانب من جوانب غرفة العرض كانت مشهدا مستقلا ، أخذت بعض الموتيفات فيه رقما عشوائيا لشواهد لمسرح الجريمة ،تنوع الديكور بين الرمزية والواقعية ،واستخدمت الستائر الشفافة في أكثر من مشهد لتسمح بتحقيق المكاشفة وفكرة المحاكمة النفسية للبطلة.
الموسيقي الحية كانت اختيارا ممتازا لفكرة العرض ،الجمهور شاهد علي صناعة العرض بجميع مكوناته ،حتي الموسيقي المصاحبة للأحداث تصنع طازجة.
أما الإضاءة من تصميم محمود الحسيني فكانت أكثر من رائعة استطاع أن يعبر عن كل الحالات الشعورية للأحداث بتناغم بين درجات الازرق الحالم والأحمر الثوري ولمبات الديسكو في مشهد الحفلة ،مزج بين أكثر من لون ليعبر عن حالة الصراع النفسي وتصاعد الأحداث .
الأزياء كانت منطقية ومتسقة مع روح العرض، بين الملابس التقليدية لطبيعة الشخصيات وبعض الفانتازيا في إختيار الفتاة لشرابها الطويل المخطط الذي ذكرني بفيلم me before you ربما كان إسقاطا علي رغبة البنت في الحصول علي إهتمام وحب حقيقي غير تقليدي.
أنتهي العرض بعد أن حصلت البطلة علي بعض الإهتمام المؤقت لتجد نفسها داخل سجن توهمت أنه حريري يدور حولها من أسفل لأعلي ،حتي تغطى تماما به وكأنه شرنقة أولي تعود إليها كما كانت بالبداية.
"هل تراني الآن" سؤال نسأله دائما حين تفقد شغفا أو نحاول إيجاد من يشعر بنا ، سؤال دائرى يدور بأذهاننا جميعا ولن يكف عن الدوران!





































