لم يكن حكمي عليها في أول مرة قرأت لها تلك القصة القصيرة، إلا أنني أمام موهوبة حقيقية، لكنني ما كنت أدرك أبدا أنني أمام موهبة متفتقة شاهقة، وأن تلك القصة التي قرأتها لها لأحكم عليها بنقدي في مؤتمر القصة القصيرة، ما هي إلا تعبير ضئيل لا يساوي حجم الكاتبة، وحقيقة ما وقفت عليه من فخامة اللغة وسحر البيان وأثير اللغة.
أهدتني كتابها في أدب الرسائل، وظل مهجورًا في ذلك الصندوق الذي يضم إهداءات كثر لأدباء يرجون نظري في مكتوبهم.. ولثقتها في أدبها وتعبيرها حاولت أن تستنطقني لترى انطباعي.
أصابني إحراج بالغ لأنني أهملت مكتوبها قهرًا عني، ولتلك الظروف القاسية التي فرضتها علي مناشطي الثقافية.
وسارعت أنظر ما تريدني أن أنظر فيه..
وهنا يسود الصمت.
تسود الدهشة.
يسود الذهول.
بل يسود هذا السؤال العجيب:
هل يمكن أن تعود روح الرافعي، ووجدانه وذائقته في امرأة؟
هل يمكن لقلم من الأقلام أن يكتب بهذا الحس الكبير، والمعاني المشعة، والتعبير المهول؟
إن هذه الكاتبة جددت ثقتي في ذلك الحكم الذي اهتديت إليه قديمًا، حينما خرجت به على الملأ وقلت: إن المرأة فعلا تفوق كثيرا من الرجال مهارة في حرفة الأدب وصنعة القلم.
مدهشة هي هذه الكاتبة التي لم أتنبه لأدبها الذي يشع جنونًا من الإجادة والاستحسان، واستطاعت بما كتبت أن تقلب حالي حينما عزمت أن أتناول سطورها بعين الناقد لألفتها إلى مواطن القصور، فإذا بها تغرقني في سحر البيان، وتدفق الإحساس، والقدرة الغالبة في جلب المعنى البليغ.
متفوقة في رسم المفردات، والتحام العبارات، وتواؤم الجمل، ثم بعد تدبيجها، تصب على ذلك كلها من عبير خلجاتها، وبواعث عاطفتها ، فصار وكأن قلبها هو الذي يكتب، لا ذلك القلم الذي يرتئيه الناظرون.
أو كأنها جعلت أنبوبا متصلا بين قلبها والقلم الذي تمسكه بيديها، فلا يكتب مما امتلأ به من حبر الكتابة، وإنما يكتب من ذلك المدد الذي يبعث به هذا الأنبوب من دفقات القلب.
ولعمري أي أدب ساحر وقفت عليه هذه الكاتبة، وبعث به خاطرها، إلا أن يكون أدبا حقيقيا، وسط ركامات من الأقلام التي لا تغوص هذا الغوص، ولا تملك مثل هذا التمكين.
إنني أكتب وكلي سعادة أن الساحة اليوم فيها مثل هذا القلم.
بل كلي أسى أن يتوه عنه القراء، ليفقدوا أدبا يستحق القراءة، أدب الرسالة، وأدب العاطفة، وأدب اللغة العالية والبيان المدهش الفتان.
كل ما كتبت بعيد تمام البعد عن المجاملة.. كل ما كتبته صادق التعبير عما أجد بين يدي الآن، من سطور أديبة شهد عليها قلمها، وأعلنت عن حقيقتها سطورها. قبل أن أشهد لها أنا أو أظهر من حقيقتها شيء.
لقد قلت يوما بين الجموع في مؤتمر القصة القصيرة:
الأديبة زينات مطاوع
تذكروا هذا الاسم جيدا.
واليوم أؤكد على قلته وبقوة.
زينات مطاوع