كان من عادة أمي بعد أن تنتهي من طحن القمح، أن تضرب بيديها على القادوس لتنزل آخر حبة من الدقيق.
فهي تعرف مقدار الحب الذي غسلته في ماء الترعة مع أختي سهير ثم نشرته على الحصير في جرن البيت ووقفت أنا؛ لأحرسه وأهش عنه العصافير حتى يجف قبل أن تحضره للطاحونة.
كنت أشفق على يديها وهي تضرب بها بكل قوتها فيهتز جذعها الجاف، أتشبث بجلبابها خوفا من أن تتشقق أو تسقط كما سقطت نخلة جارنا حامد منذ بضعة أيام .
أزاح الطحان يدها وقال لها:
دي كانت آخر طحنة للماكينة يا فاطمة وخدتي حقك كله
فنظرت إليه بعينيها الواسعتين وألقت بجديلتها السوداء خلف ظهرها وشمرت عن ساعديها وأزاحته بدفعة واحدة، فانكفأ على الأجولة التي خلفه .
وبدأت تضرب بكفيها على القادوس فأخرجت الكثير من الدقيق الذي كان يحجزه لنفسه .
وبعد أن عبأته وربطت أجولتها التفتت إليه قائلة : ملقتش غيري تسرقه يا مخبول، أنا عارفة عدد حبات القمح الي بطحنها وقد ايه تطلع دقيق
لو عملت كده تاني هفضحك في البلد كلها والناس تعرف خصلتك المهببة .
تهته الرجل وتقدم إليها متضرعا وقال : أرجوكي يا أم حسين أنا غلطان كنت عاوز شوية دقيق تخبزهم سعاد للعيال.
مصمصت شفتيها وقالت : راجل دهل وليه مقلتليش على الأقل كنت هتاخدهم بالحلال
أنا غلطان ياست الناس سامحيني
_المسامح كريم يا عوض ابعت مراتك تاخد خبزة من الدقيق للعيال ومتعملش كده تاني
_ربنا يخليكي يا أم حسين ويرجع لكم الصول محمود بالسلامة
_يااارب ياخويا
كنت أقف أمام الطاحونة ومعي الحمار ، أسميه عدس وهذا لأني لا أحبه فقد رفسني أكثر من مرة وأنا أحاول أن أركبه
وكذلك لا أحب العدس. أبكي عندما تطبخه لنا أمي وكرهت الشتاء وأسميته أيضا شهر العدس
رغم حبي للمطر .
وضعت امي اجولة الطحين فوق عدس وأركبتني فوقها وأسندتني بيدها وسار بنا عدس حتى وصلنا إلى البيت
لم أكمل لكم ماذا فعلت أمي لترد لي الحلق المسروق . لبست جلبابها الاسود ووضعت الطرحة على رأسها وأمسكت بيدي وهي تهرول وانا خلفها. الحر مازال يلسع قدمي بعد أن صب لهيبه على التراب الذي يتطاير من سرعة سيرها على وجهي وملابسي
أناديها فلاتجيب، ألمتني يدي وهي تجرني خلفها
حتى وصلنا إلى المكان الذي أخذتني منه البنت
تملك أمي الشخصية البوليسية فأخذت تنظر في الأرض لتتقصى أثار أقدام البنت على هذا الطريق الترابي بعد أن أخبرها البائع أنها سارت من اتجاه الشرق ، فسألتني : ماذا كانت ترتدي في قدمها ياموكوسة جزمة ولا صندل فقلت لها :
صندل قديم
_وكم كان عمرها
_كانت أطول مني في طول سهير اختي
ثم التفتت امي للبائع وباغتته قائلة :
كيف لاتعرف بنت من هي ؟ وهي من قريتك
تلجلج البائع ودارت عيناه لتبتعد عن عينا أمي التي تشبهان عيني الصقر وازدرد ريقه .
وما أن اقتربت منه وهمست له بشئ لم أتبينه،
ترك ما في يده وخرج مهرولا من دكانه ليقف في عرض الشارع ويقول بصوت ملهوف : بنت سعد حجازي
وبيتهم جنب شجرة التوت هناك وأشار بيده على البيت فرمقته أمي من رأسه إلى قدميه ومضت
ومازالت يدها تعتصر يدي ولا تستجيب لتأوهاتي .
طرقت الباب ففتحت لنا البنت الباب وما أن رأتني حتى عرفت ماجاء بنا.
همت بإغلاق الباب في وجهنا ولكن ذراع أمي كان الأسبق فجذبتها أمي كالمغناطيس من جلبابها حتى أخرجتها من بيتها والبنت تصرخ وتقول : اتركيني يامجنونة هتقطعي هدومي
دقيقتان وخرجت الام في أثر ابتتها؛ لتراها تتملص كدب وقع في الشرك فما كان منها إلا أن حاولت أن تضرب على كتف أمي؛ لتخلص ابنتها ثم نادت زوجها قائلة :
الحقنا ياسعد ولية مجنونة ماسكة في خناق بنتك
يخرج سعد وهو يمسك عصاته بيد وبالأخرى يحاول ستر نفسه بجلبابه .
وقبل أن ينطق قالت أمي : بنتك سرقت حلق بنتي
أنا هقعد تحت الشجرة ربع ساعة تطلعوا الحلق يا إما البلد كلها هتعرف إن بنتك حرامية ودي بنت شوف مين هيبص في وشها ولا هيتجوزها .
ونظرت أمي لأمها قائلة : شبعي بنتك بحبك وشوفي هي ليه جعانة علشان تسرق
أمسك الأب بشعر البنت وجذب أمها من جلبابها ودخل بهما يحملهما إلى الدار وأغلق الباب
مر وقت قليل أطلقت أمي فيه سراح يدي. وأمسكت بعود من الحطب وأخذت ترسم به دوائر على التراب وهي شاردة.
أعلم أنها تفكر بأبي فقد مر شهران منذ آخر أجازة له.
أما أنا فأمسكت بجذع الشجرة أحتضنها وأدور حولها.
سعيدة بأمي وبأن حلقي سوف يعود إلي .
مضت نصف ساعة وخرج الأب ومعه البنت وقد ظهر أثر الضرب على وجهها وشعرها المنكوش
وأمها تضع يدها على فكها وتبكي
اقترب سعد من الشجرة التي نجلس عليها وقال لأمي : الحلق مش في الدار الحلق في الغيط
تعالوا معايا ودفع ابنته بكفه على ظهرها فجرت حافية وسط حقل الذرة وسرنا خلفها
حتى وصلنا إلى عود على طرف الحقل و قد ربط بشريط أحمر
وحفرت البنت بيديها تحته فأخرجت قطعة من الخيش وفتحتها ليلمع الحلق فيها .
يتبع .......