داخلي غرام لا يُشبه أي غرام آخر... غرام بهذا المربع الدافئ: المكتب.
ذلك الركن الصغير الذي لا يراه أحد.
حين أدخل مكتب أحد المشاهير، أشعر أنه منحني إذنًا للحديث مع رفيقه الصامت، مخزن أسرار روحه، وملجأه الآمن حين يشتد الزحام.
المكان الذي بحث داخله عن إجابات لا تمنحها المجالس الكبرى، مهما كان الحاضرون.
أنتبه جيدًا للتفاصيل: رصّة شرائط الكاسيت، أوراق تحمل بقعة حبر، شخبطة على ورقة لأفكار أرقَت صاحبها، صور لمن أحبّ ومن آمن بهم، الأوراق المليئة بملاحظات عن النفس والناس والوقت — كلها ليست مقتنيات عادية، بل شواهد على سيرة داخلية لا تُقال. حتى ترتيب الكتب يكشف أولوياتٍ لا ينطق بها لسان.
وفي هذا المكان، كنت في حاجة إلى وقت أطول داخل مكتب الأستاذ صالح مرسي.
كل شيء هنا يختبئ، لكنه ينطق بما لم يُقَل.
جلستُ أتخيل لقاءات الأستاذ صالح مرسي، التي شهدها هذا المكتب من التاسعة مساءً وحتى التاسعة صباحًا، مع الضابط عزيز الجبالي، على مدار شهور طويلة، ليحكي له عن رفعت الجمال، أو رأفت الهجان.
رنة الصدق التي حملتها الحلقات لا يزال هذا المكتب الهادئ يحتفظ بها عن طيب خاطر.
وصوت زوجته، السيدة وجيهة، وهي تروي لماذا بكى زوجها بعد قراءته أوراق البطل المصري الذي زرعته المخابرات عشرين عامًا في قلب العدو... تليفونات ليلى مراد وسعادته حين وافقت أن يكتب مشوار حياتها، انفعاله الصادق وصراحته .
هذا الرجل، البعيد الآن، كيف أثّر البحر في حياته؟ وكيف أسره حتى نهاية عمره، فظلّ يحلم بالعودة إلى الكتابة عنه؟
أرفف مكتبته ضمّت كتبًا عن الفن، والأدب، والجاسوسية، بلغات مختلفة، كما ضمّت شرائط كاسيت باللغة الإنجليزية عن هذا العالم الكبير، وشرائط موسيقى لعمر خيرت، وصورة معتادة للزعيم جمال عبد الناصر، صادفتها مرارًا في مكتبات كبار الكُتّاب، كما لو اجتمعوا على لحظة واحدة مثّلت لهم أمرًا غاليًا، ظلّ مصاحبًا لهم طيلة حياتهم.
داخل أدراج المكتب، خطابات عزيزة احتفظ بها، منها ما كان بينه وبين يوسف إدريس، وأوراق شخصية "القَهوجي" التي التقطها من الواقع وذهب وتقمصها بنفسه حتى يجيد كتابتها، قبل أن تتحوّل إلى فيلم من بطولة محمود ياسين.
أحببت أن اقول أنني جئت هنا يوما وليغفر لنا الأستاذ طرقنا على بابه. ❤️
بعد دقايق في الثالثة عصرا يعاد اليوم عرض وثائقي "صالح مرسي" على شاشة الوثائقية AlWathaeqya ويعيدني داخليًا إلى لقائي بهذا الرجل الذي التقيتُه دون أن ألتقيه.