مكان مهيب يتهافت إليه الكثير من البشر، كل إلى مكانه المبرم له، هناك على طريق جانبي من ذلك المكان الفسيح سارت الأقدام متسارعة نحو ردهة طويلة تقودها إلى قاعة كبيرة بها صفوف من المقاعد، يتوسطها طريق يقود إلى منصة حكم عتيقة يتقلدها ميزان العدل، جلسَت تلك الأعداد الكثيرة في صفوفها في صمت يتملقون بعضهم البعض ولكل مظلمته، هم ينتظرون رحمة قاضي الحاجات في السماء أن يُسخر لهم رحمة قاضي الأرض فينصرهم، وينالوا الحكم الذي يريدون.
نحن الآن في محكمة تُدعى محكمة الحب، حيث يأتي هؤلاء المتحابون المتخاصمون ليتحاكموا ويأخذوا مظلمتهم من أحبائهم، فربما يتصالحون وينتهي خصامهم أو يقتصون منهم ويبتعدون للأبد، والآن في هذه اللحظات محاكمة عاجلة لمتحابَيْن قام أحدهما بالجور والظلم على رفيق روحه، فقد أتت الحبيبة الحزينة وتظلمت ضد حبيبها، جاءت وقد شحذت همتها فما توقعت منه خذلانا قط، وما عرفته سوى ليّنا هيّنا، ولا علم لها من أين له بتلك القسوة الفظة؟! وكيف هان على قلبه أن يتركها تتجرع الأنين في فقده بعد أن ملأها عشقا وآواها لنبضه الحنون مرارا وتكرارا، جاءت الحبيبة بروح منكسرة وخطوات متباطئة مطأطأة الرأس لا تقوى على الحديث، ولكنها بصدد محاولة أخيرة لإنقاذ نبضها الذي أتاها بعد سنين عجاف من الوهن والخيبات الكثيرة طوال عمرها، هي الآن تنتظر دخول هيئة القضاة للحسم في أمر حبها، وها هو حبيبها ينتظر خلف القضبان مستسلماً، وجهُه يملؤه القسوة ويبدو بثبات مدمر لروحها، فمنذ أن قرر الفرار من قلبها إلا وقد تغير حاله للنقيض، ولم يعد يهتم أبدا، ربما هو الآخر ينتظر القاضي كي يفصح عن شكواه منها وربما هو الآخر يئن في فراقها لكن كبرياءه اللعين منعه وأبعده عنها، هذا بعدما كان لها الروح والسكنى.، نودي في بهو المحكمة بصوت جهور: محكمة. وقف جميع الحاضرين بصمت ودخل القضاة، أحدهم تلو الآخر، توسط رئيس القضاة المحكمة وأشار ببدء المحاكمة، نودي على طرفي النزاع، الطرف الأول المدعوة نقاء ضد الطرف الثاني سليم .
أشار لها القاضي بالبدء في بث شكواها ضد الطرف الحبيب، وقفت والدمع يملأ مقلتيها تحاول أن تستدعي الكلام وأن تبث ما علق بروحها من آلام جعلتها تتقدم بشكواها للمحكمة المهيبة، هي الآن في لحظات فاصلة يمر شريط ذكريات حبها أمام ناظرها، شردت معه بعيداً، ابتسمت ابتسامة فاترة أذاقت روحها الألم من جديد، لقد ظنت أنها ستستطيع المواجهة وستَقدر على بث خطوات ظلم حبيبها أمام الملأ الجهور، لكن هيهات لضعفها، لقد ألجمها وأعاد لها لحظات الألم التي حاولت أن تتخطاها لتبدو أقوى، وفي موقف المدعية بالحق على ذلك العاصي لقلبها الشاذ بعيدا عن طرقاتها والذي لم يفارقها أبدا طيلة أيام حبهما، كان حبيبا صديقا أخا أبا وكل البشر لها، كان بمقاس أحلامها في كل شيء، كانت ترى بعينيه ألف ألف حبيب وكانت تنعته بأجمل أقدارها، الآن كيف له أن يضيعها من يده وكيف له أن يجبرها على المضي بعيدا عن طرقاته التي كانت مأواها يوما ما! كيف له بتلك الحماقة والجنون وما عرفَته إلا رزينا متعقلا؟! أفاقت الحبيبة المسكينة من شرودها وحاولت أن تقف بشموخ وكبرياء لتسرد للقاضي ملابسات القضية، فهي أقدر على شرح ما خبأته بداخلها تحت روحها العزيزة الأبية، ورغم كسرها لا ترضخ ولا تُذل، فقد خلقت من عجين الكرامة و الكبرياء.
واصلت: أولا اعذروني إن أطلت عليكم ،،،
سيدي القاضي، أنا امرأة خلقت من زمن آخر هو زمن الحب الجميل، لي مفاهيم خاصة بالحب، آمنت بها جدا وترعرعت في حناياها امرأة نقية عاشقة، نقاء روحي لم تعهده البشرية من قبل إلا نادرا، لم يعرف قلبي الكذب أبدا، لم أتحلى إلا بجميل الخصال، كنت امرأة نادرة تبحث عن الحب في كل شيء، لم أتوانى لحظة عن التفكير به وعن الإيمان بوجوده قريبا من روحي، كنت في إصراري جميلة روح ذات أريج جميل، تربيت في كنف أعظم الرجال، أبي الحبيب الذي كان يراني فتاته الحنون ذات القلب المفعم بالطيبة، رباني على العزة والشموخ والكبرياء، أوصاني بروحي ألا أخذلها أو أقلل منها ومن كرامتها، تركني وأنا في أشد الاحتياج لنبضه وروحه، ربما تركني جسدا لكنه لم يبرحني روحا قط، روحه تحيطني أينما ذهبت، وددت كثيرا لو كان حبيبي المجهول نسخة من أبي، لأزداد سعادة وأحيا بين ذراعيه بفرح البنت والحبيبة، لكنها الحياة لا تأتينا بكل ما نريد، طالت رحلة بحثي عن الحب والحبيب رغم شعوري بقربه من أنفاسي، لكنها الحياة نحياها على أمل اللقاء بمن نريدهم حتى لو طالت الرحلة وصعب زمن الوصول، قابلت برحلتي الكثير من الخذلان والأسى، انتابتني الكثير من الآلام، ربما لأنني كنت ذات روح هشة، وذات حساسية مرهفة، لم أتحمل تلك الطعنات القاتلة التي منحتني إياها الأيام في خضم جريانها، لكن رغم كل شيء كنت أفيق من كل كبوة لأكون أقوى وأستطيع الاستمرار برحلة بحثي الطويلة، فربما كان حلمي الجميل يستحق تلك المثابرة وذلك الإصرار الممتع والإيمان بشيء يكبر بداخلي يوما بعد يوم.
إلى أن استجاب القدر لندائي ودعائي المتواصل ورزقني الحب بعد طول انتظار وكأنه يكافئني على طول الصبر الذي تحليت به دائما، فبعد هذا العمر ومنذ أربعة سنوات جميلة أعتبرها هي سنوات عمري الحقيقية، قابلت فتى روحي وحبيبي، كان رجلا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تعرفت عليه في حوادث الأيام، ومنذ الوهلة الأولى وقد امتلكني، قادني قلبي إلى طرقاته، كان ساحرا لروحي وقلبي، استسلمت لنداء قلبي ولكني تريثت وصمدت قليلا أمام هذا الطغيان الذي استعمرني، حتى راودت نفسي نحوه قليلا ثم استفتيت قلبي الذي يصدقني إحساسه دائما، حتى صدقني حدسه فجريت إليه بكل ما فيَ من قوة الحب، فتعرفت على المذنب الماثل أمامكم بعد أعوام من العناء، كان إنسانا مختلفاً خلوقا لكنه رغم ذلك كان به خصلة سيئة فكان يعرف جميع النساء ولا يكف عن التودد لهن وملاطفتهن والحديث المستفيض معهن، ولأنني لست كهؤلاء النساء المارات بحياته توقفت لبرهة، كنت أقترب وأبتعد في محاولة لإنصاف روحي ليكون لي وحدي، راوغته قليلا حتى أتاني مهرولا وقد امتلأ قلبه بحبي، تواعدنا بالحديث دون اعترافنا بالحب و بالألفة الكائنة بين روحينا، ربما تحدثنا دون دراية منا لما سيؤول إليه أمرنا، كانت أحاديثنا طويلة شيقة حديث يليه حديث، وكلما مرت الأيام زاد تقاربنا وتفاهمنا، كان بارعا في الحديث والمناوشات، كثير الضحك، ملأ قلبي سعادة بقربه وأزال ما بقلبي من آلام ملأته وأقضت مضجعه، حوّل قلبي بقربه لواحة من السعادة، كان قلبي بوجوده يرفرف كعصفور صغير يتعلم الطيران، امتزجت أرواحنا امتزاجا جميلا وكأن قلبينا قد وقّعا معاً عهود الهوى دون أن نشعر، جرى كلينا نحو الآخر بلهفة عارمة وشوق لا يحتمل الانتظار، وجاءت لحظات الانتصار الحقيقية وبُحنا بما أغرق قلبينا من مشاعر طاغية، كانت أولى لحظاتنا معا، كنا السر والهوى، الجمال والروح الأخاذة نحو جميل المشاعر.
قلت له: أحبك.
قال لي: أهواك يا نبض العمر.
لم نلتفت إلا ونحن قد تشابكت أيدينا وقلوبنا وأرواحنا، توحدنا بشكل رائع فاق كل توقعاتنا، تواعدنا باللقاء بعد الكثير من أيام حبنا، وحدث لقاؤنا الأول، وفرحة قلبين يثبان في الهواء ليكتملا، جرى نحوي وقلبي تنبض دقاته سريعا، لمحت ابتسامته وشوقه بعينيه، جريت نحوه وقد ملأني شعورا غريبا فارتميت بين ذراعيه، احتضنني طويلا وساد صمت روحينا وكأننا نتشبع ببعضنا البعض، شعور بالأمان ملأ روحي وكأن الله أنبته بقلبي نباتا حسنا، وعوضني الله به عن سنين شقائي، كانت تلك اللحظات هي لحظات ميلادنا الأولى، قضينا معا لحظات شوق وحب، مرت سويعات سعادتنا معا و كأنها ثوان معدودة، وجاءت لحظات المغادرة وقد امتلأت عيناي بدموع الشوق قبل أن يتركني، كنت أتمسك بيده ولا أريد أن أفلتها وكأنني ابنته الغارقة في حب أبيها، فارقني ولم يفارق روحي، وانحدرت دمعاتي رغما عن إرادتي، ومضت الأيام على وعد بلقاءات أخرى، وتوالت لحظاتنا التي اقتربنا فيها كثيرا، لم يخذلني قط ولم أر معه سوى السعادة والنشوى، كانت الأيام تمر علينا فيزيد ارتباطنا عن ذي قبل، فشعرته قطعة من قلبي وروحي، كان سري وستري لم أخفي عنه يوما شيئا بداخلي، كنت معه كتابا صفحاته بيضاء، دلفت إلى روحه ودلف إلى تلابيب ذاكرتي وقلبي، أحببته كما أردت أن أحب، ازداد ولهي وجنوني به، وكيف لا وهو ابن قلبي ومجنوني الأوحد!، كنت أحادثه ليلا ونهارا ولا أملُّ أبدا من محادثته، أذكر ذات مساء وذات لحظات ضعف ووهن أصاب جسدي فمرضت وكان يهاتفني حينها، كنت معه، يحادثني وقد ازداد مرضي وذهب عقلي ولساني وأنا أناديه بصوت خافت ضعيف: أحبك.، حزن لمرضي وقد عجز عما يفعله حتى سمعت حشرجة بكائه، ظل يناديني: حبيبتي كوني معي ولا تتركيني. يناديني كي لا أغفو منه بمرضي وقد ازداد توتره و صوت دموعه، أدركت حينها مقدار حبه لي، حتى ذهبت في غفوة المرض وقد زاد قلقه علي، لحظات فارقة في عمر الحب تجعلك تدرك قيمة الحب بقلبك.
و كأنك تحيا بأمان كل العالم!، أصابتني تلك اللحظات بأوج نبضي فتوطدت ركائز حبه بداخلي ولم يصبح لي ملاذا غيره، أحببته بجنون وكانت الغيرة تتملكني كثيرا، وتجعلني أستشيط غضبا خاصة إذا وجدته يحادث امرأة غيري، كنت امرأة مدللة في حبه، كان رغم عنادي وعصبيتي الزائدة يحبني أكثر ويتحمل غضبي الزائد وشرار اشتعالي، وكيف لا أفعل ذلك وهو حبيب النبض والروح!، حتى هو أيضا كان يقع في فخ الغيرة وكنت أستمتع وأتلذذ بغضبه الجميل لكنه كان أكثر هدوء ورزانة مني، بينما أنا كنت مجنونة في حبه. مرت الأيام الجميلة وقد توطدت معها علاقتنا وزادت رواسخ حبنا، كنا نسرق من الدنيا تلك اللحظات التي نكون بها معا، العين بالعين واليد باليد، والقلب يعانق القلب، والروح تمتزج بالروح، لحظات سعادتي كانت حينما يضع يدي الصغيرة بكف يده فتغوص بها، ونشوى روحي كانت حين يخطف مني عناقا جميلا، كانت كل الأماكن شاهدة على لحظات ميلادنا معا وشاهدة على كل لقاءاتنا، فما أروعه من لقاء مع الحبيب هنا وهناك، كان كل ما بيننا جميلا، قُربِنا، خصامنا، شوقنا، لهفتنا، نيران حبنا المتأججة دائما، كان كل شيء يسير مثلما نريد وأكثر، حتى تحققت المقولة "دوام الحال من المحال".
كنت يا سيدي القاضي في مناقشة معه من مناقشاتنا الكثيرة التي ألِفناها معًا وكنت دائما أستشيره بكل شيء يخصني فكان مستشاري وسندي في كل أمر، ودليلي في كل تيه، كنا نستمتع بالحديث معا وكنت أستشيط غضبا إذا أراد أن يترك حديثي ويذهب، كنت أفتقده حتى وهو معي، إلى أن جاء ذلك اليوم التعيس الذي تحدثت فيه بصفاء نية عن حب سابق كنت قد نسيته وكأنه لم يكن يوما، فربما هو أمل راودني يوما ما حين بحثي عن مدينة الحب الفاضلة، تفوهت بذلك بسذاجة قلبي الذي كان يظن أن شيئا كهذا لن يزيدني إلا محبة في قلبه، فقد تعودت معه على الصراحة، كنت أتحدث معه وكأنني أتحدث مع نفسي فهو نفسي يقينا، ظننت ذلك "وإن بعض الظن إثم". تنهيدة طويلة أطلقتها نقاء الروح وغصة أطبقت على روحها ودموعها متحجرة على شفا عيناها وهي تنظر إليه خلف القضبان.
القاضي: رفعت الجلسة مؤقتا،
ثم بعد دقائق استأنفت المحكمة عملها، واستطردت المدعية قائلة:
لقد كان اعترافي له بهذا الحب بسجية وتلقائية مفرطة حين كنا نتناقش حول سؤال هام وهو هل يتحول الحب إلى صداقة خالية من الحب؟ كنت أؤمن أشد الإيمان بإمكانية حدوث هذا الأمر ولكنه عارضني أشد المعارضة، حتى اعترفت له أنه قد حدث معي ذلك وعن تجربة حقيقية وأنه كان أمرا سريعا لا يعدو كونه حادثة حب لم يكتمل وانتهى منذ زمن بعيد، وأننا تخلينا عن التفكير بأمر هذا الحب العارض واحتفظنا بصداقتنا الخالية من أي مشاعر، لم أفكر للحظة واحدة أنه سيردع قلبي ويهاجمني هذا الهجوم العنيف، حاولت أن أشرح له حقيقة الأمر برمته لكنه لم يسمعني أبدا، كان غاضبا ثائرا لا يوجد شيء يقف أمام غضبته العاتية، لم أتوقع أبدا حدوث هذا كله وإلا كنت تلافيت الأمر برمته، لقد كنت أعتبر أننا شخص واحد لا تفصلنا عن بعضنا تلك الأشياء، ولكن راودني سؤال هام: لمَ تلك المرة ولمَ هذا الاشتعال والحريق؟، صُدمت لرد فعله ولم أدر ماذا علي أن أفعل وهو حبيبي!، انتابتني غصة لهذا الخصام المباغت ولكني لم أعتبره أكثر من مجرد خصام عابر سيعود بعدها لقلبي نادما، ولكن يا لسذاجتي!
تركته بعضا من الوقت كي يهدأ غضبه وتقل وتيرة انفعاله، وكان أمرا شاقا علي جدا ولكني في سبيل عودته لي أفعل أي شيء، حاولت بعدها مرارا أن أحادثه ولكني وجدته أكثر طغيانا وغضبا، حادثني بأسوأ طريقة ممكنة وتلك المرة الأولى التي أرى فيها ذلك الوجه الغاضب، صرخت بدخلي: ماذا فعلت بحبي؟. لقد أضعته وتفجرت ينابيع الصراخ بداخلي، حاولت أن أهدأ وأستميله لقلبي بكلمات الحب الصادقة، لكنه لم يستجب لندائي وحبي غضبت جدا من أسلوبه العنيف معي وحزنت لاتهامه لي أنني اتخذت حبه مسكنا لقلبي فأخبرته أنك وحدك من ملكت قلبي وروحي، ولن أستطيع أن أبتعد عنك، كان فتيل الاشتعال بينا قويا مدمرا.
حتى سألته فجأة: هل تشك بي؟ أجابني والقسوة تملأ نبرات صوته: نعم أشك بك.، قالها وكأنه قد طعنني في مقتل، ولأنني فتاة عنيدة وذات كبرياء لم أتحمل قسوة شكه، أبَعدَ كل هذا الحب والمشاعر يشكك بي وبمصداقية نبضي؟ انفعلت أكثر وزادت غضبتي ورددت متسرعة: إذن لا حب، وردّ هو: نعم لا حب بيننا بعد الآن، وانقطعنا عن بعضنا البعض بعضا من الوقت، كنت بحالة مزرية ودموعي تنهمر ولا سبيل لهدوء روحي، كنت مشتتة حائرة إلى أن جاء ذلك اليوم الذي خرجت به وكنت أعبر الطريق شاردة فظهرت أمامي سيارة فجأة فصدمتني، ثم توقفت بعد أن فرمل قائدها، تجمع المارة حولي وأنا أبكي لا أستطيع الوقوف، حملوني جانبا من الطريق، أخبرتهم أنني بخير فقط اتركوني بعض الوقت، كنت مذهولة من لحظات اقتراب السيارة مني ظننت أن الموت قريبا مني قادم لا محالة ولكن ستر الله أعطاني عمرا جديدا، استجمعت نفسي بعدها ووقفت وأكملت طريقي وساقي أشعر بها مملوءة بالألم، في تلك اللحظات لم أفكر سوى بحبيبي، شعرت بحاجتي القصوى له، احتجت جدا أن أبكي بين ذراعيه وأن يضمني طويلا ولكن كيف لي به! فكرت أن أتصل به ولكني كنت خائفة من رد فعله، فكرت أن يصله الخبر بطريقة ما وقد كان ما أردت، فقد جن جنون حبه وقلق علي جدا وما هي إلا دقائق ووجدت هاتفي يضيء باسمه، وكأن الحياة قد رُدت إلى روحي، فرحتُ جدا ورددت عليه والعبرات تخنقني حبيبي، كان صوته يذيبني حبا مع حالة استسلامي وضعفي واحتياجي له، مزيج من المشاعر المتباينة انتابتني حين سمعت صوته، ظل يسألني عن حالي وأنا أطمئنه، كان الحب والقلق واضحا في نبراته، بادلته الحب والفرحة بعودته لقلبي، توالت المكالمات بيننا وكان حنونا معي يهدهد روحي كعادته إلى أن انقطعت مكالماته مرة ثانية.
حادثته ثانيا فوجدته قاسيا بعض الشيء، شكَكت في رد فعله، فكيف يتحول مرة أخرى هكذا!، كتبت إليه فجاء رده قاسيا وكأنه كان يتردد بين شفا أمرين الحب والشك، وأعاد لي اتهاماته القاسية، أخبرته: لا أحب سواك فلا تضع حبنا هباء.، وزاد إصراره وتوعده لي بالفراق، شعرت وكأن خنجرا مسموما صوب نحو قلبي، ويحه ذلك المتمرد إنه يعلم كم أني أحبه ولا أطيق فراقه، كيف يفعل هذا بي حتى عاندته مرة أخرى، تبا لعنادي وكبريائي الذي أفضى بنا نحو الفراق مرة أخرى، ومرت الشهور ياسيدي القاضي وأنا في حال بئيس، أتقلب في جمرة الحزن يمنة ويسرة، حتى ساورني حنيني إليه أنه ربما قد هدأ وسيعود لروحي، فحاولت ثانية وأرسلت له برسالة طويلة أشكوه له، فهو حبيبي ولا شيء يفرقنا سوى الموت، وانتظرت طويلا دون رد، يبدو أنه لم يعد يحبني وليس هناك من سبيل لعودة نهر الحب، انتحبت طويلا وتحولت من حال سيء لأسوأ وهو شارد الطرقات بعيدا عن روحي، حاولت أن أنساه ولكن فشلت فشلا ذريعا فكيف لي ذلك وهو من سكن بالروح وأقام بالقلب!، حذفت من أمامي كل ما يذكرني به ولكن لا سبيل لنسيانه، فقد كان قابعا أمام عيني، فكل ذكرياتنا أمامي، صوته يشدو بأذني، لمسة يده ليدي تسري بعروقي، كيف استطاع هذا الفرس الجامح أن يسير بغير طرقاتي؟!
ظللت ياسيدي القاضي فترة طويلة على هذا الألم ولم يهدأ لي نوم ولا راحة أبدا في غيابه، حتى جئت ذات يوم وجن جنوني وقلت: لابد لي من مواجهته، فحتما لن يستطيع أن يرفض حبي وسيشعر بنبضاتي ولن يردني خائبة، فما كان بيننا من حب قوي لن يهزم بسهولة في رحى الحرب القائمة الآن، وحتما سيكون درعا قويا لي يعيده لروحي، فعزمت الذهاب إليه بمدينته البعيدة بطيور الشوق وقد كان ما نويته فعلا، فلم أتوانى لحظة عما نويته، ترددت خطواتي وتلعثمت حين الوصول إلى مكانه، ناديته وليتني ما ناديته، فقد خرج إلي بخيلاء الطاووس وكأن قلبه حجر أصم، صافحته لعلني أشعر بدفئه ولكنه كان كلوح ثلج بارد، حادثني كأنني غريبة عن روحه، تسمرت قدماي وانتابتني غشاوة على عيني، وتساءلت صامتة: هل هذا هو حبيبي؟ أين نظراته العاشقة؟ وأين لهفته المجنونة وأين ذراعيه التي كانت تؤويني إليه؟ تبا لهذا الشخص الذي لا أعرفه! تحادثنا بضع دقائق حاولت فيها أن أبدو ثابتة هادئة ولكنه في حقيقة الأمر كان هناك غليانا بداخلي، وكنت في كل ثانية تمر في تلك اللحظات أتحطم وأموت مائة مرة، قلت له في محاولة أخيرة يائسة بأني أحبه وليس لي سواه، فجاء رده صادما: وأنا أيضا لكن لابد من الفراق من أجل كلينا. تألمت وقُهِرت وأوصيته بنفسه بثبات، وضحكة ساخرة أطلقتها بألم، ثم غدوت مغادرة، دارت الدنيا بي وكنت أهرول في طريقي مبتعدة عنه ودموعي تسبقني، فقد ذُبحت اليوم ونُحر قلبي، ولم يعد لي في الحياة حبيب، مت يا سيدي القاضي وماتت أحلام حبي، ومنذ ذلك اليوم وأنا في طي الألم والذكريات، حينما أشتاقه أذهب لأماكننا القديمة، أستشعر وجوده وأبكي على فقيد قلبي وأعود كسيرة القلب مهمومة لا تطولني يد الفرح أبدا، وطال نحيب روحي وهجري، وهذا القائم الماثل أمامكم قد ارتكب إثما خطيرا ولابد من عقابه عقابا رادعا، فمثلي نقية روح صادقة النبض لا تعامل هكذا ولا تجازى بالفراق على وضوحها وصراحتها.
القاضي: هل لديكِ أقوال أخرى أيتها الحبيبة العاشقة؟
المدعية: لا يا سيدي القاضي.
القاضي: المدعَى عليه، ما هو قولك فيما هو منسوب إليك؟
: يا سيادة القاضي، ماذا أقول وقد أحببت بصدق، وأصبحت مذنبا في ديوان العاشقين!
لا حاجة لي بالحديث، انتهى زمن البوح، واغتيلت مشاعري وذبحت بالطرقات.
القاضي : تكلم يا فتى وإلا حوكمت بعقوبة مشددة، فكيف تكسر قلب تلك الرقيقة المسكينة وهي تكنّ لك كل هذا الحب؟
: هي صادقة في كل ما قصت، حاكموني أو اقتلوني، افعلوا بي ما شئتم، فلا كلام لي ولا تعليق.
صمت وجيز يخيم على قاعة المحكمة، ونظرات من القاضي للمدعى عليه أن يتكلم ولكن دون فائدة.
القاضي: هل من تعليق للنيابة!
النيابة: أرى المدعى عليه مذنبا لعدم الإفصاح عما بداخله، فما ذنبها تلك الجميلة أنها أحبته كل هذا الحب حتى تملّك العشق من قلبها تملُكا فريدا، وأبت عيناها أن تهدأ وتخلد للنوم، ربما تلمع عيناها فتكشف عن حبها الدفين ذلك الذي يملأها شغفا وسعادة معه فقط، وها هو يغيب عنها الحبيب مرارا لكنه لا يغيب عن نبضها أبدا، تستحضر وجوده كل حين فتراقصه نبضا يشع بالكون نورا وحياة، ما ذنبها إن كان الحبيب استطاع الحياة دونها بعض الوقت رغم أنها تدرك كم يهواها!، إلا أنها تريده في الأيام جميعها دون أن يبرحها مطلقا حتى ثانية واحدة، وها هي تنتظر مرور السويعات حتى تسمع نبضه يهمس لها حبا وهو يصمت عنها ويفلت يديها، من يُرزق بحب كهذا ويتخلى عنه!، أظنه حتى لو كان في طيات الأمر مظلوما، فله بعض الذنب والرأي لعدالتكم سيادة القاضي.
الحضور جميعهم في حيرة من أمرهم، يتغامزون كيف هو يصمت عن الدفاع عن نفسه، هل هو محق في فراقها، أم هي المظلومة، كيف للحب أن ينتهي عند عناد وكبرياء، إنه الحب أجمل أقدار الدنيا!
القاضي بعد مشاورات مع لجنة القضاة ينطق بالحكم: حكمت المحكمة، تقاطعه المدعية سيدي القاضي عذرا هل لي بكلمة أخيرة من فضلك.
القاضي: نعم لك ذلك!
المدعية: لا أريد أن يحكم عليه دون أن يتكلم لا أريد ظلما له، هل لي بمحادثته دقيقة أمامكم ياسيدي القاضي، فلنعطه فرصة أخيرة.
القاضي يتعجب من أمرها فكيف لها تشكوه وترق له ولا تريد له ظلما فيجيبها : حسنا يا ابنتي
تتقدم المدعية بخطوات متباطئة، تتسارع أنفاسها وهي متجهة نحو حبيبها، حتى تصل إليه وهو خلف القضبان يُبعد نظراته عنها حتى تقف أمامه وتطيل النظر إليه لعله ينظر إليها وترى ذلك الحب الذي يخفيه خلف قسوته الخادعة، همست له: حبيبي.، نظر إليها متعجبا وراود نفيه صامتا: أما زالت تناديني حبيبي، ويحها حبيبتي!
المدعية: حبيبي تكلم، دعك مني، قل ما بداخلك، ربما إن أفصحت عما يختلج بصدرك، يصيبك الارتياح ويصيبني، حبنا يستحق أن نفعل من أجله كل شيء، تبدأ ملامحه العابسة تحنو قليلا، ينظر إليها خفية بنظرات شوق عاتية، نعم رأت حبها في عينيه، فرحت قليلا وودت لو يرتد عن صمته، ثم ابتعدت وعادت لمكانها في صفوف قاعة المحكمة على أمل إنقاذ حبهما الذي تدافع عنه. القاضي: هل ستتكلم أيها المدعى عليه الناكر لفروض العشق؟
المدعى عليه: نعم يا سيادة القاضي. تعجب جميع الحضور فمنذ دقائق كان يرفض الحديث، والآن بعد أن همست له ببضع كلمات يرتد عن موقفه، هو يحبها جدا فلم إذن يفارقها، أكمل المدعى عليه حديثه قائلا: كنت في مقتبل عمري شاب فتيِّ مفعم بالحيوية محبوب من جميع الفتيات، لي جاذبية خاصة أمام الفتيات، أجيد التعامل معهن جدا، كنت أتنقل بينهن دون حب، أحيا بسعادة وطغيان الشباب لكن لم يدخل الحب قلبي أبدا لأي منهن، حتى قابلت نقية قلبي بعد كثير من سنوات العمر، فقد خطفت فؤادي منذ اللحظة الأولى، خلته لم يكن حبا أبدا، لكني كنت أرتاح بالحديث معها جدا، ملكتني برقتها وعذوبتها ونقائها، كانت حالمة تداعب روحي بحبها، حتى ملكت قلبي فصارحتها بحبي لها وإذ بها تبادلني الحب والأشواق، أواه من حبها ومن قلبها وبهاء عطرها، تنجذب لها دون إرادة منك، كانت مختلفة عمن قابلتهن قبلها.
خاصة نقاء روحها وصدقها وفطرتها وتلقائيتها، اقتربنا أكثر وأكثر، أعترف أنها قد أثرت بي جدا فقد غيرت عالمي، فلم أعد أعرف من جنس حواء غيرها، اكتفيت بها وحدها، جعلتني أزود عن كل شيء دونها، أصبحت أراها أمامي في كل حياتي، لا أفعل من خلفها شيئا يؤذيها، أصبحت وكأني أسير على الصراط لا أحيد عنه، أحببت نفسي جدا لهذا التغيير الذي جعلني أشعر بأخطائي في حياتي السابقة وأصوبها في كل لحظاتي الحالية، كنت أتغير معها للأحسن وكنت أحبها أكثر وتتعلق بي أكثر ولكن كنا كثيري الخلاف، فهي تغار جدا من أي نون نسوة، تقلب الدنيا إن علمت أني حادثت إحداهن، كنت أحب غيرتها جدا وأتقبل جنونها في الحب، شعرت معها بكل شيء مختلف، ولأننا عنيدي الطباع متشابهان جدا كنا نتخاصم كثيرا، ثم نغفو قليلا غفوة حب حتى نعود بعدها بكامل طاقتنا في الحب، للحب معها حياة ولونا رائعين، كنت حين أضمها لصدري أشعر بأحاسيس تهز كياني، أحببتها جدا وأبدا، ولن تدخل أبدا قلبي امرأة غيرها، لكني كما كنت بارعا في الحب معها، كنت أكثر براعة في الغضب، أعلم أنها كانت صفحة بيضاء معي لم تُخف شيئا عني يوما، كنت أشعرها كالطفلة حين تحكي لي تفاصيل يومها، لا تترك خبرا دون أن أعرفه، كنت صندوق أسرارها وحارسها الأمين، حتى صادف يوم نحسها حين أخبرتني بتلقائيتها المعهودة عن حبها القديم الذي لم يستمر طويلا، غضبت قليلا حتى أخبرتني أنه لم يعد حبيبها، لكنه صديقها الذي يحادثها ويطمئن عليها بين الحين والآخر فاستشطت غضبا، ودارت الدنيا بي، قامت شرارة الاشتعال بداخلي، لم أتحمل أنها كانت تحب غيري، ضاقت روحي وانكسر قلبي وربما أكون قد حمّلت الأمور غير مسارها وزِدت عنادا وكبرياء على عنادها وكبريائها، واخترت كبريائي الذي يحفظ علي كرامتي، أخذت ألملم جراحي ورحلت أئنُّ بصَمت، وألوذ فرارا بجراحي العاتية إلى أقصى مدن الروح، وباقي القصة قد روتها لكم المدعية بالعشق.
القاضي: هل ما زلت تحبها؟
المدعى عليه: ولغير قلبها لن أنتمي يوما.
القاضي: عجبا لك يا بني! أتحبها كل هذا الحب وتتخلى عنها لأنها صارحتك بما مضى عليه الزمن، هل لو كانت حبيبتك ممن يجدن التلاعب والمكر والدهاء أكان ذلك أفضل من صراحتها التي أدمت قلبها وأسقته نيران الفراق؟
المدعى عليه : لا ياسيادة القاضي، فما أحببت فيها أكثر من نقائها وعفويتها حبيبة القلب، وأعترف أنني أخطأت بحقها، ولكن رغما عن قلبي فأنا عنيد ولا أتنازل عن كبريائي.
القاضي: إذن هل ستعود لها أم مازال موقفك كما هو؟