انتهى لتوه من تغليف كعكة عيد الميلاد التي اختارتها بدقة بعدما وقفت تتأملها طويلا، كان يراقبها من بعيد وهي واقفة منبهرة بكل تفاصيلها، كعكة صغيرة على شكل قلب مغلفة بغلاف أبيض مائل إلى الصفرة من عجينة السكر، الكعكة ملساء كالحرير تخطف البصر... على أحد جوانبها زينت بشريط من ورود بنفسجية و بيضاء متفاوتة الأحجام معمولة من عجينة السكر كذلك و مطعمة بخرز ذهبي و بني أخذ دوران شكل القلب منحرفا مع انحرافه السلس الناعم .
قبل أن يغلفها لها طلبت منه أن يكتب على الجزء الفارغ منها جملة كتبتها في ورقة وأعطته إياها.
فتح الورقة وابتسم، اختلس نظرة إلى وجهها الجاد والصارم رغم براءته والنظرة الطفولية التي تشع من عينيها، بعد لحظات من التفكر وضع الورقة جانبا وقال بجدية
_سيدتي، الكتابة ممكن أن تشوه شكلها الأنيق والرقيق، ولكن يمكننا وضع عبارة جاهزة مسبقا منحوتة على لوح صغير من الشيكولاتة نثبتها بجانب الوردات.
ثم راح يعرض عليها نماذجا جاهزة لعبارات مكتوبة باللغة الانجليزية مثل "i love you" أو " happy birth day" أو "with my love"....
قاطعته بعناد
= لا... اكتبها...
صمتت هنيهة ثم اضافت بحسم... بحروف عربية!
ابتسم بغيظ وأومأ برأسه موافقا ثم قال بتحد
_سيحتاج الأمر بعض الوقت... يمكنك أن تعودي في المساء لاستلامها، أو يمكنك ترك العنوان ونحن نرسلها إليك.
بدون تفكير أجابت" سأعود في المساء" ثم شكرته وغادرت بخطوات ثابتة.
ظل يتابعها حتى خرجت، حار في أمرها، يعرفها منذ مدة طويلة، تشتري كل حلواها المفضلة من عندهم، تقف طويلا أمام القطعة التي تختارها قبل أن تحسم أمرها وتقرر شراءها، تتوجه نحوه مباشرة بخطوات هادئة وثابتة وتطلبها منه، تطلبها منه هو بالتحديد، أحيانا تأخذها معها وأحيانا أخرى تأكلها في الركن المخصص لذلك.
لا تأت كثيرا ولا تغيب طويلا، لكنه كان عندما يراها يشعر أن يومه قد تحسن!
مظهرها رغم بساطته أنيق جدا يشعره أنها من بيت أصيل جارت عليه الحياة بعد عز... تشبهه... طريقة كلامها تقول أنها متعلمة تعليما جامعيا لكن ظروف العيش جعلتها تعمل عملا لا يتناسب مع مؤهلها، كما يفعل هو بالضبط... لم ينفعه بكالريوس التجارة إلا في بعض الحسابات التي يجريها لصاحب البيت الذي يسكن فيه والذي جعل الطابق الأول منه سوبر ماركت كبير كلفه هو بمراجعة حساباته لثقته في أمانته وكذلك ليوفر راتب محاسب آخر، يعلم أنه يتأخر في سداد إيجار الحجرة التي يعيش فيها على سطح البيت فأراد أن يستخلصها منه بطريقة أخرى.
يذكر جيدا المرة الأولى التي جاءت فيها إلى هنا، وقفت طويلا أمام إحدى الفاترينات، وعندما استقرت على اختيارٍ توجهت نحوه مباشرة... كان منشغلا مع زبون آخر... انتظرته حتى انتهى، لم تتوجه إلى أحد غيره من العاملين رغم فراغ بعضهم، أَسَرَه انتظارها له طويلا حتى انتهى فاستقبلها بنظرة امتنان وابتسامة لطيفة أخجلتها... رأى ذلك في تورد وجنتيها واختلاج جفنيها الكحيلين، طلبت طبقا من الكريم كراميل مع كوب عصير برتقال طازج بدون سكر ثم توجهت إلى ركن الجلوس، استقرت خلف منضدة صغيرة ذات قرص دائري وحولها كرسيين حديديين منجدين بالأسفنج المغلف بغطاء من المشمع الأحمر و المزركش بورود صغيرة متباينة الألوان، تجلس دائما في هذا المكان وعلى هذه الطاولة، جذبت الكرسي الشاغر نحوها و وضعت حقيبتها الصغيرة فوقه وانتظرت، عقدت ذراعيها أمام صدرها وراحت تجول بعينيها في المكان تستكشف أركانه، تنظر بانبهار إلى الديكورات الأنيقة وباقات الورود الصناعية المتناثرة في الاركان بالتبادل مع وحدات الإنارة الرقيقة والموسيقى الهادئة، تدور عيناها في كل اتجاه ثم تنتهي إليه فتستقر عنده للحظات وعندما ينتبه لها تجفل بعيدا عنه ثم تعود لتدور في المكان من جديد.
عندما أحضر لها النادل طلبها كانت منشغلة بالبحث في حقيبتها، رفعت بصرها نحوه فاصطدمت عيناها بوجهه الشاحب، سحبت عينيها سريعا وهي تشكره وبدون إرادة أرسلت بصرها إلى حيث يقف هو، التقت عيناهما في لحظة خاطفة، كان هو منشغلا مع إحدى الزبائن ورغم ذلك نظر نحوها، ابتسم فجأة بعد تلك النظرة الخاطفة، أما هي فخفضت عينيها واستقرتا على الطبق أمامها وراحت تتناول ما به بهدوء وخجل.
بعد ذلك تكرر مجيئها في هذا الوقت بالذات، تقضي ساعة ثم تنصرف، رآها بعد ذلك مصادفة في أحد محال النظارات القريبة منهم فعلم أنها تعمل هناك في الفترة المسائية.
ينتهي من عمله في الخامسة و في طريق عودته يمر كل يوم من أمام محل النظارات ليجدها مشغولة بالزبائن أو بترتيب المكان او بالقراءة في أحد الكتب أو المجلات، يمر سريعا دون أن يلتفت إليها أو تلحظ هي وجوده، يحدث هذا كل يوم منذ عدة أشهر حتى شعر أن رؤيتها أصبحت طقسا يوميا لا يكون يومه حسنا بدونها.
***************
استفزتها لهجته المتغطرسة وهو يعرض عليها تلك الأشكال السخيفة كي تزين بها كعكتها التي اختارتها بدقة، خرجت من المحل مستاءة تحدّث نفسها بعدم العودة لولا أنها بالفعل قد دفعت ثمنها.
غريب أمر هذا الشاب، لماذا يتابعها دائما في كل مرة تأتي فيها؟ لماذا يصر أن يقدّم لها خدماته؟ يفرّغ نفسه دائما لأجلها، حاولت مرارا أن تتعامل مع عامل آخر غيره لكنه لا يدع لها فرصة لذلك، دائما يكون مستعدا لتلبية طلباتها، رغم كل محاولاتها في التراخي والانتظار حتى ينشغل هو ويتفرغ لها غيره لكن هذا لا يحدث أبدا، دائما يجيبها قبل أي أحد حتى لو كان منشغلا، لا تنكر أن ابتسامته الرقيقة وعيناه اللوزيتان تخجلانها دائما فلا تستطيع صده، لكن الأمر قد ازداد عن حده، يحاصرها بنظراته كأنما سلطه أحد كي يراقبها بلا توقف، ولكن... لماذا يراقبها؟... هل يعرفها؟... هي لا تعرفه... ولا تذكر أنها التقته من قبل أو أن شيئا يستحق الذِكر قد حدث بينهما كي يتابعها إلى هذا الحد!
نعم... لم تره من قبل إلا في هذا المحل منذ مدة... منذ اليوم الذي اعتادت فيه المجىء إلى هنا لتستعيد ذكرى جميلة ما زالت تحيا لأجلها، ذكرى أول لقاء لها مع من أحبّت... زميل لها في المصلحة الحكومية التي تعمل بها صباحا، كان أول من التقته عندما ذهبت لاستلام عملها، كان معها في كل خطوة تستكمل فيها الإجراءات، لم يتركها إلا في المكتب الذي استقرت فيه بعد ذلك، عرّفها بجميع الزملاء الذين استقبلوها استقبلا جيدا فأحبت لذلك العمل معهم و بينهم، كان وسيما ومحبوبا من الجميع، تبدو عليه سمات ثراء بسيط، أنيق بلا تكلف... متباسط مع الجميع، توطدت أواصر الصداقة بينهما وتعدتها لاهتمام آخر مبالغ فيه، دعاها ذات يوم لتناول بعض قطع الحلوى في هذا المحل الأنيق والبسيط، كانت هذه هي المرة الأولى التي تجلس فيها معه وحدهما، بعد ذلك بشهرين انتقل من الإدارة التي تعمل فيها إلى إدارة أخرى، جاء بعدها يزورهم عدة مرات ثم انقطع لانشغاله لكنه ما زال يهاتفها بين حين وآخر، دائما يسأل عنها سؤالا خاصا، في عيد ميلادها الماضي أحضر لها هدية رقيقة، حافظة نقود صغيرة مصنوعة من الفرو يتدلى منها قلب أحمر صغير، لم يهدها أحد من قبل هدية مثلها... بل لم يهدها أحد من قبل أية هدية، هو أول انسان احتفل معها بيوم ميلادها... لا تدري كيف انتبه لهذه المناسبة لكنه جعلها تحب هذا اليوم وتنتظر مجيئه، احتفلا معا به في هذا المكان، جلسا على تلك الطاولة التي اعتادت الجلوس إليها، لو جاءت يوما ووجدتها مشغولة لا تجلس في مكان آخر... بل تأخذ طلبها وتغادر، اليوم هو يوم ميلاده، هاتفته في الصباح وطلبت لقاءه في الثانية مساء فاعتذر متعللا بانشغاله بأمر هام، لكنه أخبرها أنه سيأتي في المساء وينتظرها في التاسعة تماما على الناصية بجوار محل النظارات، صاحب العمل لا يحبها تستقبل أحدا من معارفها عنده فقرر ألا يسبب لها حرجا، فكرت أن تحتفل معه بيوم ميلاده كما فعل هو من قبل وأن تعترف له بحقيقة مشاعرها تجاهه، لابد أن يعترف أحدهما للآخر، هو ما يزال يشعر بالحرج خشية أن تصده...هكذا أكدت لها الأستاذة سامية زميلتها في العمل، لذلك سترفع عنه هي الحرج وتخبره بطريقة لطيفة... لكن... لكن هذا الشاب قد أزعجها و غيّر مزاجها الذي حرصت أن تجعله هادئا من أول النهار،
ظلت الافكار الحانقة تأكل رأسها حتى وصلت إلى محل النظارات، تنتهي من عملها الحكومي في الثانية ظهرا لتبدأ عملها الآخر في الثالثة، بُعد المسافة عن البيت جعلها تقضي تلك الساعة في الشارع أو في هذا المحل متوسط التكلفة والعزيز عليها كذلك... تتناول فيه بعض الحلوى التي تعشقها، انتظرت لحظة اللقاء بقلب متلهف وأعصاب متوترة، ورغم ذلك شعرت بالسعادة ولذة الانتظار.
********************
أغلق الخط وأعلن عن تبرمه واستياءه، لا يدري إلى متى سيظل أسير وصية أستاذه! عندما طلب منه أن يكون مع هذه الفتاة خطوة بخطوة وهي تنهي إجراءات استلامها للعمل في المصلحة لديهم! حينها أبدى ترحيبه بذلك وفعل كل ما أمره به وزيادة، لا ينكر كذلك أن البنت للوهلة الأولى قد أعجبته و أن العلاقة بينهما قد تعمقت كثيرا و ود لو أنها اتخذت شكلا أكبر من الصداقة، لكنه مع الوقت استشعر ذلك البون الكبير بين قلبيهما وعقليهما فاكتفى بها كصديقة يهمه أمرها ويقف بجانبها، اتصالها اليوم أربك خطته... فكر قليلا ثم قال... لو تعارضت المواعيد سأضحي بموعدها!. استراح للفكرة فأخذ نفسا عميقا وتمطى ثم نهض مسرعا إلى الحمام ليغتسل قبل ذهابه إلى العمل، في المساء كان يجلس بحلة أنيقة في مطعم فاخر بين عدد من الأصدقاء والصديقات يحتفلون بيوم ميلاده الخامس والثلاثين، بدت عليه السعادة أكثر من أي يوم مضى، منذ أن انتقل إلى هذه الإدارة وهو يشعر أنه قد ولد من جديد وأن هذا المكان هو الذي يناسبه، أحب المكان ومن فيه خاصة زميلته ذات العينين البنية والشعر الأحمر، من النظرة الاولى علم أنه قد وجد نصفه الآخر الذي بحث عنه طويلا ولم يجده في كل الفتيات اللواتي التقى بهن على مر السنين الماضية، أحبها كحب قيس لليلى وتمنى لو أنه تعلم الشعر فينظم فيها در القول ولؤلؤه.
كان قد اتفق مع صديق له أن يهيء الجو و يخلّي بينهما ليبوح لها بمكنون قلبه، جلس مرتبكا كمراهق يكتب قصة حبه الاولى ولا يعرف من أين يبدأ، تلعثم وتحدث في أمور شتى لا تمت لما جاء لأجله بصلة، تكلم عن الطقس وروعة المكان وهدوء الليل وما يحمله من رومانسية توقظ في النفس مشاعرا جميلة تراكمت عليها مشاغل الحياة وخطوبها فردمتها في الأعماق، وهي تنظر إليه بعينين ماكرتين تعرفان تمام المعرفة ما الذي يريد قوله لكنها تدعي الغباء، بعد مدة ألقى في وجهها اعترافه الخطير كمن يطرح عن عاتقه حملا طالما أنهكه.
تبسمت وخفضت عينيها وظلت صامتة صمت من يرتب أعواد الحطب قبل أن يلقي بها في النار لتحترق، ظل محملقا في وجهها متعلقة عيناه بشفتيها ينتظر ما سوف يخرج من بينهما من كلام إما أن يحييه أو يحكم عليه بالشقاء الأبدي، وهي تلوك الكلام بين فكيها وقبل أن تلفظه تعود وتبتلعه من جديد ثم تعيد ترتيبه و تعود وتلوكه ببطء، ظلت مدة على هذه الحال حتى استحثها كي تجيب، قالت بكلمات هادئة ورزينة " لو أنك بكّرت قليلا لما وجدتُ أفضل منك زوجا لي، لكنني ارتبطت منذ أيام قليلة بإنسان آخر" نزلت كلماتها عليه كشلال ماء بارد جمدت له أطرافه، بعد لحظات استوعب الأمر... ابتسم محاولا اخفاء خجله وارتباكه، تكلم بصوت مرتعش حاول أن يجعله مرحا كلاما كثيرا غير مترابط محاولا الاعتذار لها، أمسكت يده الباردة بحنان وضغطت عليها بلطف وقالت وهي تنظر في عينيه مباشرة " أنت أخ جاد الزمان به علي" ثم ابتسمت وغادرت بهدوء، ظل واجما مدة لا يدري كم طالت، لم يخرجه منها إلا النادل جاء بالفاتورة، نظر له بعينين خاويتين وتائهتين، ثم بعد لحظات طلب فنجان قهوة.
***************
انتظرت طويلا على الناصية وفي يدها حقيبة ورقية بداخلها علبة أنيقة مغلفة بورق السولوفان الملون بالأزرق والمزركش بورود صفراء وحمراء وخضراء، وعليها شريط وردي في منتصفه عُقِدَتْ وردة من ورق الكروشية مشغولة بحرفية وإتقان. لم يعتادوا في هذا المحل أن يقدموا علب الجاتوه والكعكات مغلفة بهذه الأناقة لكن الذي حدث والذي لم تعرفه هي أبدا أن الشاب ذا العينين اللوزيتين توجه بالعلبة إلى إحدى المكتبات المجاورة وطلب من الفتاة الواقفة فيها أن تغلفها بطريقة أنيقة كما تغلف الهدايا، واشترى بطاقة أنيقة كتب عليها عبارة رقيقة مع توقيعه ثم انتظر عودتها لتستلم كعكتها.
رغم انتهاء ساعات عمله إلا أنه انتظر حتى الثامنة والنصف وسلمها إياها، قبل أن يضعها في العلبة المغلفة أطلعها عليها لتتأكد من تنفيذ طلبها، كان مكتوب عليها بحروف عربية جميلة من الشيكولاتة البيضاء الملونة باللون القرمزي" مع حبي... "
أعجبتها كثيرا فتبسمت بامتنان ابتسامة نفذت إلى قلبه فخفق لها، بادلها ابتسامة رقيقة تكشف عن مكنون روحه أكثر مما تخفي، رمشت بعينيها خجلا من وقع ابتسامته عليها وسرت في جسدها قشعريرة جعلتها ترتبك، لحظات وأعطاها الكعكة في حقيبة ورقية أنيقة فأخذتها منه دون أن تفتحها، خرجت مسرعة ظانّة أنها تأخرت عن الموعد المرتقب وكانت بين حين وآخر تطالع ساعة يدها فتزداد اضطرابا.
وصلت قبل الموعد بخمس دقائق فلم تجده، وقفت متحمسة يحدوها أمل رقراق وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عذبة وتوردت وجنتاها ولمعت عيناها بسعادة وإشراق، مر الوقت متثاقلا وكئيبا وكلما مر ضاقت ابتسامتها وذبلت وجنتاها واختفى البريق من عينيها. في الوقت ذاته كان الشاب ذو العينين اللوزيتين يراقب الموقف من بعيد ويد الخيبة تعصر قلبه عصرا.