يا رب أنا محمد رفعت الذي تعرفه، لا الذي يعرفه الناس
لا الذي كان الناس يزدحمون من تحت قدميه، يستشعر اكتظاظ أنفاسهم، وتقاتلهم على الصف الأول حيث يتلو، يستبقون إلى المسجد الصغير الذي أفضل التلاوة فيه، وآتي فتُفسح لي الطريق، ويتهافتون على مصافحتي وتقبيل يدي.
أنا عبدك الذي مننت عليه بالنور لعامين، ثم أسدلت عليه ستائر الظلمات كي يكون لك وحدك. أنا الذي أغلقت كل الأبواب في وجهه وفتحت له بابك الأعظم. أنا الذي وقفت حائراً بعد وفاة أبي وأنا طفل في التاسعة، لا أرى أين يسعى ، فيؤخذ بيدي إلى الرزق لا أجري إليه.. وأنى للأعمى أن يجري؟!
وأنا الذي كانت يرتعب، ترتعد خطواته وهو سائر إلى الحفلات، يسمع تصايح الجماهير فيزداد رعباً أن تعذبه لأنه يقرأ لسواك. أبكي وأنا أتلو فيظن الناس أني وليّ، وأنا أبكي مخافة أن تسعر بي النيران!
أنا عبدك الأعمى الذي أقمته على قدميه، وأوصلت صوته للآفاق، إلى أبعد ما كان يظن أبي وهو يسلم يدي للشيخ محمد حميدة. أنا الذي جاءني الانجليز يطلبون صوتي، فطلبت أجراً لصغاري، وأنت الذي تدخلت لتمنع هذا، ولتجعل أجري منك أنت وحدك. لم تزلزلني، ولم تنزل بي الصواعق، وأنا أستحق! فقط جعلتَ الرجل يكتب صفراً زائداً في الخطاب المتوجه إلى الإذاعة البريطانية. صفر واحد جعلهم يتراجعون، ولم أتكلم حينها؛ لأنني عرفت. ما بيني وبينك جعلني أفهم.. ولأنك أنت الله؛ غفرت لي وسترتني مجدداً..
وأقسمت من يومها ألا أطلب أجراً من سواك، وأوصيت أهلي بألا يأخذوا أجراً عن تلاواتي..
أنا عبدك الذي امتحنته بأحب الأشياء إليه..
منذ صبيحة الجمعة التي قطع صوتي فيها الفواق وأنا أتلو " جعلنا لأحدِهِما جنتيْن"، انقطع صوتي وأنا أمام الوزراء والمشاهير، وعدت صاغراً لبيتي، تماماً كصاحب الجنتين، أحيطَ بثمري، وأقلب كفّيَّ على ما أصابني.
إن لم يكن بك غضب عليَ فلا أبالي..
سبع سنين مضين منذ تلك الصبيحة، أتلو لنفسي هامساً، لا ترتيل ولا تجويد ولا إطالة. أنت وحدك تعلم كم يوجعني الحنين للتلاوة، لربما أكثر مما يوجعني الورم الناشب في عنقي كقبضة من حديد. كم كنت أعلو في السماوات، وكأن الحروف ترى وتأخذ بيدي لأكوان لم يعلم بها أحد سواي، تتوقف أذناي عن السماع، ويهيم قلبي بالحب، وأنعزل في جنة من ضياء، وأود لو أرحل فوراً إليها وأترك كل هؤلاء في أماكنهم ينظرون إلى جثتي! بعت كل ما أملك لأستعيد جنتي ولكنك لم تشأ أن تعود.
أنا محمد رفعت الذي تعرفه
الذي نحل جسمه، وذهبت صحته، وانفض من حوله الزحام الزائف، وخلت الطرقات إلى بيته، واتسع الفضاء. خلا ظلامه من غمغمات الإعجاب والإشادة. ذهب كل شيء، وبقيت أنت وحدك!
ولك الحمد أن خلّيتني لك، سبع سنين وأنا لك، صامت في ظلمتي التي لا يؤنسني فيها سواك. سجن كسجن يوسف، أنا الفقير ذو الذنوب يجري عليّ ما جرى للصالحين قبلي!
ثم ها هو الاختبار يتجدد!
جاءني الصحفي بعد أعوامٍ من النسيان والعزلة، وأخبر الناس عن مرضي..
والله يا رب ما عرفت أن كل هذا سيحدث..
جمعوا لي الأموال لأجري العملية في حلقي، فرفضت..
وعلمت أن رجلاً صالحاً سجل تلاواتي، وذهب بالاسطوانات للإذاعة، وطلب منهم أن يعطوني معاشاً..
وأنا عند وعدي لك، فأعنّي! لا تدع هذا المال يصل إليّ..
لقد تعبت من الرحلة، وطال بي المسير
أما آن لعبدك الأعمى أن يبصر النور؟!