خرجت أماليا من المحكمة لتجد البروفيسور محمد ينتظرها برفقة أصدقائها الثلاث"
أعاد ماجد إلى الواقع صوت القطار يُعلن وصوله نحو المحطة الثانية، ليضع الكتاب على عجلٍ داخل الحقيبة و يمسك بأغراضه خارجاً نحو مقاعد الانتظار ويجلس على المقعد منتظراً وصول رحلة القطار التي سوف تصلُ به نحو المدينة.
تنهَّد بتعبٍ وهو يضع أمامه الأغراض ويردد بصوت منخفض: الحمد لله هذه المحطة ما قبل الأخيرة وبعدها نصل.
كان يتأمَّلُ أشجار البلوط المزروعة بانتظام لتفصلَ بين مقاعد الانتظار، وكأن المحطة لم يتم تحديثها منذ أمد بعيد، أو أنهم اختاروا تركها كما هي ذكرى من الماضي.
28.
جلست أمامه فتاة ترتدي قفطاناً أبيض اللون وحجاباً ساتراً، وجهها المُستدير و الخالي من مساحيق التجميل يُعبِّرُ عن طبيعتها البسيطة، تحمل على كتفها حقيبة متوسطة الحجم، تعلو ملامحها ابتسامة عفوية، تومئ بالتحية لكل من يقابلها.
لم تنظر إلى عينيه أو حتى تلقي عليه التحية كما فعلت مع الجميع، كاد يعتقد كونها صماء لا تفقه شيئاً، أو أنَّه غير مرئي بالنسبة إليها، حتى مزَّقت ثوب الصمت الذي أرخى أطرافه بينهما بكلمات أعتبرها عشوائية..
- أأنت مسافر قديم في هذا العالم؟!
رفع إحدى حاجبيه بتوجس وقد رسمت على شفتيه ابتسامة تهكُّم أيوجد مسافر قديم وآخر حديث الطراز؟!
قالها وهو ينظر إليها بتحدي، قبل أن يدير وجهه نحو الجانب الآخر من المحطة.
كانت تتحدث إليه وهي تنظر إلى شجرة السنديان المقابلة لها، لم تتغير ملامح وجهها أو يرتفع صوتها، بل أجابته ببرود وثقة مشيرة إلى الكتاب الظاهر غلافه في الحقيبة الجلدية الموضوعة بينهما.
- كنت أقصد عالم الكتب يا صديقي، هل أنت قارئ شغوف أم أنها مُجرد هواية أدخلتها حياتك لكونها موضة هذه الأيام؟!
29.
- وهل القراءة أصبحت إحدى صيحات الموضة حالياً؟!
هذه المرة التفت نحوها وهو يقف بغضب حاملاً أغراضه ليجلس في مكان بعيد عن ملكة الثلج التي تدير الحديث بينهما كما اعتقد بعشوائية..
- عذراً سيدتي أنا لن أدخل في نقاش عشوائي، سأجلس في مكان بعيد عنك.
ضحكت بسخرية وهي تنظر إلى ساعة الحائط الموضوعة على مقربة من مكتب التذاكر وهو تجيبه بفتور:
- لا أعتقد أنك سترحب بفكرة التأخر عن الوصول قرابة العشرة ساعات، دقائق و سيصل القطار التالي..
- ومن قال لكِ أنني أنتظر الرحلة القادمة للسفر، ولربما أنتظر قدوم شخصاً ما على متنه؟!
- أأنت جاد بما تقوله، لقد سافرت قرابة الثلاث محطات وهذه ما قبل الأخيرة، أجلس وانتظر بهدوء..
- من أنت يا هذه؟!
- أنا مريم كاتبة رواية رُفِعَت الجلسة.
نزلت كلماتها الأخيرة عليه كالصاعقة، اقترب منها وهو يتفرَّسُ ملامح وجهها وقسماته، بعد أن رفعت الإسدال عنه فعلاً هي مريم كما في الصورة المنشورة داخل المقال تماماً.
30.
ابتلع ريقه وهو يحاول ترتيب أفكاره، تذكر صديقه محمد الصحفي الذي لم يكن يستطع ترتيب أي موعد صحفي برفقة أي كاتب طيلة هذه السنة، وهو يحاول ويبحث عن نقطة يبدأ عمله منها، أراد أن يكون تلك البداية مع إحدى الكُتَّاب المشهورين، لكن لا بأس فهو الآن في عطلة والبعض من الإنجازات الصغيرة ستفي بالغرض وترفع من تجاربه، بل كان من الأفضل له التحدث مع شخص ما كصديق طوال هذه الرحلة المُتعبة على تخيُّلِ بومة خيالية أو الانغماس في تأمل المارة والمسافرين من حوله.
استطاع إحصاء عدد الغيوم التي رآها من خلال النافذة، وأنواع الشجر المثمر على حافة الطرقات، وقد أنهى قراءة خمس كتب وثلاث روايات قام بتأجيل قراءتهم مدة طويلة من الزمن.
لم يستطع النطق وكأنه ابتلع لسانه فجأة، حتى أنه أدخل يده تَحسُّساً خشب المقعد واضعاً يده الأخرى وراء رقبته يمسح العرق المُتفصِّد إثَرَ ارتباكه.
جلس على المقعد وهو يحيط خصره بذراعيه يلفهما حوله كمحاولة للظهور بأعلى معايير الهدوء والثقة اللازمين للبدء بالحديث.
31.
لكن النداء الصادر عن المكبرات الصوتية للذهاب نحو القطار والتوجه إلى المقاعد للبدء في الرحلة الجديدة حالت بينه وبينها، لذلك قرر توديعها بإشارة من يده حاملاً أغراضه، واصل المشي نحو الرصيف يقف بين الجموع الغفيرة ينتظر الضابط الذي يقوم برؤية التأشيرات ويساعد الناس في العثور على أماكنهم الصحيحة ووجهتهم المحددة بأقل وقت ودقة أكبر.
كان الرجل بمنتصف الخمسين أصلع الرأس يحمل ملامح طيبة بوجه مستدير وشاربين كثيفين يغطيان فمه، يتحدث باللكنة الإنجليزية بطلاقة ويشير إلى غير الناطقين بها بلغة الإشارة إلى أماكنهم المخصصة داخل البطاقات، ليدخل من أول بوابة نحو المقعد المخصص له.
الجو الحار جعل جسده يتفصَّدُ بالعرق وكأن صدره امتلأ بالهواء الساخن فما عاد يستطيع التنفس بشكل طبيعي، لم يعتقد بأن مهمة الجلوس على المقعد ستكون صعبة إلى هذا الحد!
الانتظار من أكثر الأشياء صعوبة، والتي يحاول الإنسان إتقانها، يقضمُ أظافر روحه بتوتر، وينهش عقله مشاعره الممزوجة بين القلق والتوتر تجعله يرى الوقت يمرُّ بثقل وصعوبة .
32.
حتى أنه تنفس الصعداء بعد جلوسه أمام النافذة وهو يرتب الأغراض أمامه، ليرخي ظهره ويستند مستريحاً بعد عناء نصف ساعة داخل الزحام.
أغلق عينيه مستعيناً بسماعات وضعها داخل أذنيه تنبعثُ موسيقى هادئة ليستعيد هدوءه، ما إن فتح عينيه حتى وجد الكاتبة تنظر إليه ببلاهة وعلى وجهها ابتسامة ساذجة، تجلس مقابلاً له، تضع قدمها فوق الأخرى و تسند ظهرها إلى المقعد تجلس بشكل مريح.
قطب حاجبيه باستغراب ردد في نفسه: أعتقد أنها صدفة لا أكثر، أما ما الذي يدعوها لملاحقتي والركوب داخل نفس القطار؟!
أطال النظر حوله ليجد بأن الجميع أخذوا أماكنهم المخصصة والقطار يعلن عن بدء الرحلة بعد ثلاث دقائق من إغلاق الأبواب، حتى تأكد المشرفين من جلوس المسافرين على المقاعد و ترتيب الاغراض بشكل صحيح ومنتظم، لعدم حصول أي فوضى أو مشكلة مع أحد.
33.
لم يكن الجميع يحمل الجنسية نفسها، وقد وجد اختلافات بين العروق و الجنسية والديانات، ترى الوجوه بمختلف الملامح الألوان، اللغات الأجنبية الممزوجة واللكنات التي تعطي موسيقى تاريخية عن شعوب العالم، تظهر رائحتها المميزة التي تجمعهم دون تميز ألا وهي رائحة المطر.
اخترقت فضاء تفكيره بصوتها الأنثوي الذي خرج من المنفى لينظر إليها بتركيز، كانت تتحدث معه وهي تنظر داخل عينيه بثقة وكلمات قليلة:
- لم تخبرني عن رأيك بالرواية -رفعت الجلسة- وهل انتهيت منها؟!
- لا أزال في الفصل الثاني منها.
قال لها مجيباً بسرعة و دون تفكير، بعد أن قام بالنظر إلى الحقيبة التي وضع بها الرواية، زامَّاً شفتيه كمن اكتشف لاحقاً أكله الحامض بكثرة ليزدرد ريقه بصعوبة، وهو يستطرد الحديث في نفسه: ثم أنني أعتقد عدم رغبتي في إكمال قراءتها في الوقت الحالي.
أردفت حديثها وهي تنظر إليه متحدية مشيرة بيدها نحو الحقيبة قائلة:
- ما رأيك أن تتابع القراءة لكن بصوت مسموع، ثم لنقم بتحليل الأحداث ودراستها معاً، وبهذا نُبدد الساعات الستة التي تفصل عن وصولنا نحو المحطة؟؟
34.
- حسناً سأفعل ذلك قال لها وابتسامة مكر تقف أسفل ثغره، قبل أن يردف قائلا لكن أخبريني أولاً كيف عرفتي بوجود تلك الرواية بحوزتي؟
- كنت أجلس إلى جانبك منذ بداية الرحلة والصدفة الأغرب هو وجودنا على متن الرحلة نفسها، وأنا أعتقد أننا نمتلك نفس الوجهة، فلا بأس من امتلاك أحدنا صحبة طريق على أن يقضي ساعات غير معدودة يعدُّ الغيوم أو يحصي أوراق الشجر.
لم ينظر إليها أو يبدي ردة فعل إيجابية كانت أم سلبية بل اكتفى بالموافقة على رأيها عن طريق إخراجه للكتاب والفتح على الفصل الثاني من الرواية وهو يقرأ بصوت عالي دون إحالة النظر إليها.
- لكن قبل قراءة الرواية، كنت أود القول بأنَّك امرأة قوية فعلاً، هل تعتقدين بأن الرواية تلك ناجحة، للاطمئنان إلى هذا الحد؟! سألها ماجد وهو يقلب الكتاب بين يديه.
- حسناً، الاطمئنان لا يعني اكتمال جوانب حياتك ونجاحك في كُلِّ مضمار تخوضه في هذه الحياة، بل الراحة التي تنبعث داخل قلبك بمعرفتك حجم مجهوداتك التي قدمتها، وإن فشلت في تحقيق الهدف من ذلك الاختبار، تعلم جيداً بأنَّه لا يتوجب عليك دوماً الفوز به، بل أخذ الفائدة من تلك التجربة، وأنا أعلم أنني أخذت التجربة من روايتي بشكل أو بآخر. ردت عليه مريم بثقة وهدوء وهي تشير إليه بالبدء في القراءة.
35.
المحطة الثالثة:" لقاء مع كاتب"
الفصل الثاني من رواية : رفعت الجلسة
الجلسة الثالثة:
كان ينظر إلى البروفيسور محمد ويناظره بدقة قبل أن يسأله:
- إذاً يا أستاذ محمد، أخبرني عن قصتك مع هذا البحث منذ البداية..
محمد:
انتهى وقت المحاضرة المخصص لهذا اليوم وبدأ الطلبة والطالبات بالانصراف على مهل ككل صفوف الكليات، أما أنا فبدأت توضيب أغراضي المبعثرة على المكتب وإعادة الأوراق والبحوث إلى الحقيبة من أجل قراءتها ومراجعتها في منزلي، وبينما أنا منغمس في كل هذا حتى سمعت صوتا عند رأسي جعلني أهتز من مكاني، ارتبكت قليلا
ورفعت رأسي فإذا به عميد الكلية، اعتذر مني على مفاجأته لي حينما رأى ارتباكي ثم قال لي بكل حزم :
- لقد تم توكيلك برحلة إلى مصر لقيادة مجموعة من الطلاب في بحث علمي وتاريخي.
36.
وهذه المرة ستقوم بها بالشكل العملي، وهي تجربة جديدة بالنسبة لك، و يتضمن البحث حضارات العالم القديم، لكن ستكون الرحلة رفقة طلبة ستراهم للمرة الأولى من مختلف الجنسيات.
كنت أود القول بأنني لن أقبل بمثل هذه المهمة فأنا لست مستعدا أبدا لرحلة خارج ولايتي، فما بالك بالسفر إلى مصر، والعمل رفقة أناس لا أعرف أسماءهم حتى!
نظر إلي بتحدٍّ وشيءٍ من الغموض، وقد رُسِمَت على شفتيه ابتسامة خبيثة تشي بالمكر وهو يحاول جعل كلماته مستفزة:
- لكنه البحث الذي لطالما انتظرته..!
حرص على أن تخرج كل كلمة من كلماته بوضوح، وهو يحاول كتم غضبه الشديد عني، يكزُّ على أسنانه، يشبك يديه ببعضهما.
أمسكت حقيبتي وأنا أنظر إليه بهدوء مصطنع لأغادر المكان، ثم قلت له بصوت مسموع:
- لا أعتقد أنني مستعد لهذه الرحلة، وانصرفت .
ركبت الباص عائداً إلى مدينتي تيمقاد، الشمس قد بدأت بالغروب لتعلن نهاية اليوم، لم يكن منزلي فخماً أو حتى منظماً، لكني لطالما أحببت العيش داخله.
37.
فهو يحمل حضارات العالم أجمع ببنائه البسيط المنقوش بزخرفات من العصر اليوناني تشده بعض من الأعمدة الإغريقية، وفي كل حائط رُسِمت الكثير من الأحرف باللغة الهيروغليفية.
لو رأيته لاعتقدت بأنني أعيش داخل إحدى المتاحف الوطنية!
وهو من بين الأشياء المتبقية لي من عائلتي التي غادرت الجزائر إلى فرنسا قبل سنة من الآن، ولهذا فأنا أعتبره ارث نفيس لا يقدر بثمن ..
ما زلت أذكر محاولات أشقائي المتكررة إقناعي بالرحيل معهم، وبأنَّ الجزائر لن تضيف إلى حياتي سوى الحزن والتعاسة، فالأوضاع مازالت تتدهور والغلاء الفاحش يضرب الناس بالجوع، والفقر ملأ أحشاءهم عوضاً عن الغذاء المنتظر.
وصلت إلى المنزل بعد أن قمت بشراء البعض من الخضار لطهوها على العشاء، وقارورة من النبيذ الأحمر صنعت منذ عام ١٩٩٣ميلادي قال لي صاحب الحانة ليثير إعجابي بها أن النبيذ هذا يتميَّز بطعمه اللاذع والحار مِمَّا يجعله مثيرا لاهتمام العملاء لديه إلا أنه فضَّل أن يعطيها لي بسبب معرفتي في التاريخ فأنا أرى ما لا يراه أولئك الثمالة الحمقى الذين لا يفقهون شيئاً عن المشروب إلا أنه يأخذهم إلى عوالم موازية،.
38.
فإما أن يرفعهم إلى الجنة أو يضرب بهم إلى الجحيم لا فرق لديهم بين هذا وذاك، وكل همهم مغادرة الواقع المعاش بجبن و أنانية للهروب من المسؤولية الملقاة على عاتقهم ..وأضاف : هذا نبيذ من التاريخ يستحقه فقط الرجال الأقوياء الذين عاشوا التاريخ وقد يصنعونه، مثلك، أما هؤلاء لم يصنعوا حتى حاضرا مشرفا ولهذا لا أعتبرهم رجالا أبدا ..
لم يكن باب منزلي موصدا ولست بحاجة أصلا إلى قفل فأنا لا أملك إلا القليل من الملابس، و شجرة ليمون حامض وبعض من أواني الطعام الحديدية إلى جانب فرن عتيق وفراش صوفي آوي إليه كلما غلبني التعب والنعاس فمن هذا الذي قد يفكر في سرقة بيت يسكنه شخص مثلي..
أما الكتب والحاجيات الخاصة بي فهي من الأشياء الثمينة لدي ولا يمكن أن يقدر قيمتها
أحد غيري، فما بالك بسارق لا يفقه شيئا، ولا يلتفت غالبا إلا لما يجلب له مالا قد يغنيه أو ينفعه على الأقل ليبقى على قيد الحياة مدة أطول، ولهذا فأنا مطمئن دائما ولا أخشى مثل هذه الأحداث ..
39.
لو أنَّه قيل لي قبل سنة من الآن أنها حياة أستاذ في إحدى الكليات المعنية بالتاريخ لضحكت في ذهول عن جنون العظمة الذي يعيش داخله أما بعد أن أصبحت حياتي فلم يعد الأمر بالشيء المهم!
أمسكت الملفات الموضوعة في الحقيبة وأنا أرتبها على مهل أمامي فوق الأرض لأتفاجأ بوجود مصنف باللون الأزرق كُتِبَ عليه ( الدم المقدس)،علمت في حينها بأنها إحدى حيل العميد الموقر لمحاولته إقناعي بالذهاب والقيام بالمهمة لكنني لن أفعل ما يشاء وما يحلو له.
قذفت المصنف بقسوة وأنا ألعن الخبث والمكر المتواجدان داخل هذا الإنسان ليقع وينفجر عنه المئات من الصور لمختلف مدن التاريخ ومنها صور لمدينة تيمقاد ،أُرِّخ أسفلها أرقام بعشوائية .
نهضت من المكان وأنا أحاول ترتيب الفوضى الناجمة عن هذا الملف الرقيق.
كان يحوي مئات الصور ومرفق بورقة واحدة كتب عليها بضع أسطر بخط العريض!
40.
الدم المُقدَّس
مملكة الدم المقدس التي أُنشِئت في عام ١٥٠للميلاد على يد الملك هيوماين وزوجته تيامين تلك التي قامت بتوطيد السلام بين الحضارات العريقة في مختلف بقاع الأرض بدءاً من بلاد الشام حتى المغرب وصولاً إلى مصر.
كانت آنذاك مملكة ولَّادة للحضارات حتى عاث فيها الفساد وجرفها غضب الله على الشعب داخلها إلى قاع الأرض.
قرأت الكلمات بسرعة لعدة مرات متتالية هل هذه قصة خيالية أم مزحة؟!
كتبت هذا التقرير إحدى الطالبات داخل الفريق واسمها أماليا.
استلقيت على الفراش الخاص بي وأنا أتجرَّع القليل من النبيذ ثم سكبتُ البقية على الأرض أمامي كان القليل منها يكفيني لأشعر بالدوار وأستسلم للنوم.
41.
رأيت نفسي داخل صحراء كبيرة، أمشي فوق الرمال الملتهبة والشمس في كبِدِ السماء ما إن اقتربت من أسوار المملكة وقد تناهى إلي عظمتها، ناظرتُ رجل عجوز يقترب من الأبواب المؤصدة وقدميه ترتجفان من تحته تبعته قليلاً ببطء قبل أن أقف خلفه ويداي
تتعرقان شعرت ببرودة تسري في جسدي لأشعر بالخدر أطراف أناملي، أراه مقوَّس الظهر بشعره الأبيض واضعا إلى جانبه عصا خشبية غليظة يتكئ إليها ينظر إلى المملكة من الخارج وهو يلوي رأسه بحسرة.
اقتربت منه فتاة مرتدية قفطاناً طويلا وستارا تغطي به ملامح وجهها، يبدو على جسدها علامات النحل والضعف، تتجه بقلق وخوف تلتفت تارة إلى الخلف وأخرى من حولها وكأنها لا تريد لأحد ملاحظة وجودها تمتمت في أذنه بضع كلمات ثم اختفت فجأة!
وماهي إلا لحظات حتى رفع يديه المرتجفتين إلى السماء وهو يردد كلمات بلغة مختلفة لم يسبق لي سماعها من قبل، رفع عصاه نحو السماء وضرب بها فوق الرمال الناعمة والملتهبة لسبعة مرات متتالية، حتى رجَّت الأرض من تحت أقدامي.
42.
وهو يقول:
- هذا الدم رجس، هذا الدم حرام هلكت تيامين هلك كل من في مملكة الدم المقدّس.
سطع نور من السماء أفقدني وعيي و ابتلعتنا الأرض في جوفها.
فتحت عيني مرة أخرى لأجد الغيوم القطنية البيضاء من خلف النافذة تعلن عن طقس مستقر أما الشمس التي بدأت بالشروق رويداً لم تكن حادَّة كما عهدتها من قبل!
شعور ما داخل قلبي خُلِقَ فجأة كان يودُّ مني قبول المهمة، أما عقلي فكان يقاوم الأمر وهو يصرخ بغضب فهو يحبُّ حياتنا الرتيبة التي نحياها.
أغمضت عيني قبل أن أقرر بشكل نهائي إرسال تلك الرسالة نصيَّة عبر البريد الإلكتروني لعميد الكليَّات عن قبولي المهمة.
ماهي إلا دقائق معدودة حتى قام بإرسال صورة عن تذكرة السفر بالشكل الإلكتروني وموعد السيارة التي ستقلني من المنزل نحو المطار للذهاب إلى مصر على الفور.
لم أعلم بأن الوقت سيمرُّ بهذه السرعة فأنا لا أملك سوى البعض من الحاجيات القليلة التي حزمتها بحقيبة سوداء صغيرة.
43.
قد أعلنت تيمقاد وصول أولى نسمات الخريف الجميلة، لذلك قررت الخروج نحو الآثار المهدمة و السير بين المدرجات لبعض الوقت وملامسة الأعمدة الجميلة كوداع أخير بين الحبيب و المحبوب.
لم أعرف كم مضى من الوقت حتى وصولي إلى المطار وصعودي إلى الطائرة لكنني شعرت بنفسي أمسك حفنة من التراب الرملية، أخذتها وأنا أودع منزلي للمرة الأولى، عادت بي ذاكرتي للماضي طفلٌ صغير يمشي بين
الأعمدة والمدرجات القديمة الملتفة أركض نحو السماء الصافية، أنظر إلى يدي الفارغتين وكأنني أضعت شيء ما لا أعلم ما هو تماما، جعلني بحاجة إلى عناق دافئ بين يدين والدتي الغالية فسالت دمعة حارة فوق وجهي، ترددت مراراً وأنا أشاهد رقمها من خلف الشاشة، هل يتوجب علي الاتصال بها أم أنه يتوجب علي الصمود ومكابدة آلامي لوحدي فأنا أخاف عليها من الحزن، مسحت دموعي بسرعة وأنا أتمتم تلك هي مشاعر الغربة عن الوطن لا أكثر، أعلم جيداً بأنني سأشتاق إلى مدينتي بهذه السرعة، للغربة طعم مرَّ المذاق لا يمكن مضغه يقف في حنجرتك أبد الدهر إلى أن تعود إلى حضن الوطن.
44.
أمسكت بين يدي ملف المهمة الموكلة إلي كان بحثاً عن تاريخ مملكة الدم المقدس برفقة
طلاب لم أراهم من قبل، ولا أعرف مدى تعمقهم في تاريخ مصر ولا حتى الحضارات القديمة عموماً.
تنهدُّت وأنا أشير إلى مضيفة الطيران أبدي لها عن رغبتي في احتساء كوب من القهوة ،راجياً أن تصل الطائرة إلى مصر في أسرع وقت.
هبطت الطائرة بسلام وقد طلب منا المكوث قليلاً إلى أن ترشدنا المضيفات نحو الباب بشكل منتظم كانت الإجراءات الروتينية تجري بسرعة.
خرجت بهدوء من البناء المخصص للقادمين وأنا أنظر بتؤدة وتأني إلى أن رأيت الشاب المدعو بآدم يقف من بعيد، تميَّزه قسماته الحادة بجسده الضخم وشعره الأسود المجعد وقد رأيت صورته قبلاً بالمرفق الخاص بالمعلومات الشخصية عن الفريق الخاص بي كما دعاه لي عميد كليتنا وقد أرسل إلي رسالة ليخبرني بها، الطالب آدم من سيأتي ليأخذني المطار، الشاب المصري في الفريق أي أنه خبير في منطقته وتعامله مع الدوائر الحكومية وهذا ما حصل بالفعل انتهت جميع الإجراءات الروتينية والأوراق المطلوبة من أجل الحصول على الإقامة المخصصة للعمل خلال ساعات قليلة.
45.
اقترب مني وهو يحيِّني بلهجته الصعيدية الحارَّة، وسار معي نحو الباص الذاهب إلى القاهرة.
على الرغم من جلوسنا جنباً إلى جنب إلا أننا بقينا صامتين طوال الطريق كانت الأجواء هادئة تماماً، في ساعات الصباح الأولى عدى عن بعض الأصوات القادمة من الشوارع والباعة قررت كسر حاجز الصمت بعد زمن طويل وأنا أتحدث إليه محاولاً جعل كلماتي باللغة العربية الفصحى لكي يستطيع معرفة ما أقول:
- هل يمكننا الذهاب الآن إلى مدينة سوهاج ؟!
نظر إلي بحذر ثم أعاد النظر إلى ساعته قليلاً قبل أن يقول بشيء من الارتباك:
- الساعة الآن تقارب العاشرة، وقد بدأت الشوارع في الازدحام عدى عن كوننا سنستغرق وقتاً أطول للعودة إليها!
قاطعت كلماته المرتبكة وأنا أنظر إليه بحزم وشيء من المرونة قائلاً:
-فلنذهب غداً صباحاً برفقة بقية الزملاء.
حاولت تصنُّع الابتسامة كي لا يشعر بثقلي عليه، أو حتى ببعض الإجحاف لكنني لم أفلح بالأمر.
46.
وصلنا إلى حيٍّ شعبي يعج بالناس من مختلف الجنسيات و الأديان على ما أعتقد ،كانت تقف فتاة شابة إلى جانب الفندق تضع قلادة للسيدة العذراء ترفع شعرها الغزير بقطعة قماش باللون البنفسجي قسمات وجهها الحادَّة و ابتسامتها الساذجة والحالمة وبريق عينيها، جعلتني أدرك بل أتأكد على الفور من هويتها، إذاً هذه أماليا الفتاة الكاتبة للتقرير الأشبه بالخيال كان يبدو عليها أمارات الشجاعة والجرأة على الرغم من جسدها الضعيف ونعومتها، وإلى جانبها تقف فتاة تحمل الكثير من الكتب، مرتدية لباس واسع تغطي شعرها ستار حريري باللون الأبيض جزمتُ على الفور بكونها الفتاة المصرية أسماء.
قامت الفتاتان بالاقتراب إلينا في الوقت الذي وصلنا به إلى باب الفندق لم أشأ التحدث إليهما قبل جلوسنا في مكان أكثر هدوء لذلك اكتفيت بالنظر إليهما وأنا أشير للجميع بالدخول ورائي نحو قاعة الاستقبال الخاصة بالفندق.
كان الجميع من حولي يتبادلون نظرات غريبة لم أفهم معناها، أو أنني بدأت أشعر بالإعياء بعد سفر طويل ومرهق.
قام آدم بجلب البعض من المشروبات الباردة برفقة شطائر محلية لكنني لم أكن بصدد تناول
47.
شيء ما أو حتى التفكير بكيفية البدء بالحوار معهم وأنا أشعر بصداع في رأسي وطنين في أذني جعلني أفقد اتزاني وأشعر بالإعياء.
ما إن جلسنا حول الطاولة البلورية المستديرة حتى قفزت إحداهنَّ تقول لي:
- أماليا هو اسمي وقد قمت بكتابة التقرير لا أكثر قال لي إحدى الأساتذة في جامعتنا بأنني أحظى بقوة و دهاء شخصية الملكة تيامين التي حكمت مملكة الدم المقدس لكنني لم أستطع تصديق الأمر حتى رأيت تلك اللوحة الطينية والتي رسمت عليها صورة للملكة.
نظرت إليها للمرة الثانية، كانت امرأة شابة في عقدها الثاني، تحاول إثبات نجاحها و تميُّزها بالكثير من الكلام المُنمَّق و الحماسي معاً.
همستُ في داخلي وأنا أنظر إليها: لا أعتقد كثيراً أن الأمر الصحيح، و إلا ما كانت ستصبح ملكة ذات يوم، فأنا لا أنفي وجود ملكة بلهاء حتى و إن كانت امرأة!
وضعت كلتا يدي أمامي وأنا أحاول ترتيب الافكار لدي، فهذه المرة الأولى التي أعلم بها اكتشافهم مكان المقبرة وابتدائهم البحث مع أستاذ آخر لكن ما هو الشيء الذي جعله يتوقف عن العمل.
48.
على الرغم من معرفتي اليقينية بوجود خلل كبير في تحديدهم مكان البحث أو حتى وجود شيء مهم كما قد قيل.
أكملت الفتاة الأخرى بقليل من الحذر وكأنها سمعت صوت أفكاري لتجيب عليها:
-إسمي أسماء و أنا من القاهرة، أعلم جيداً بكونك تسأل نفسك عن سبب توقف الأستاذ السابق عن العمل معنا لقد استطعنا منذ قرابة الشهر اكتشاف المقبرة وبدأنا بتفكيك الرموز الموجودة في غرفة الملك القابعة فوق الأرض وكنا على وشك النزول لاكتشاف المدفن تحت الأرض لكنه قرر الانسحاب في اليوم التالي دون أي مبررات بل حتى أنه غادر مصر نحو بيروت للعمل في أحد المتاحف كان الوقت آنذاك مهماً لدينا لكن عميد الكلية قال لنا : بكونه سيحاول التواصل مع أستاذ يثق بحبه للتاريخ وشغفه للعمل، وها نحن ذا.
نظرت إلى الثلاثة على التوالي وأنا أقول:
- إذن أين صديقكم الرابع، ألم تكون أربعة طلاب؟!
أجاب آدم بفتور: نعم جورج الشاب اللبناني، هو شاب انطوائي، وقد أخبرني بعدم مجيئه، سنلتقي في الكلية غداً، أما اليوم فلديه ترتيب الملفات المطلوبة لنعطيك إياها بعد أن جمعناها.
49.
أمسكت كأس الماء و تجرعته دفعة واحدة، لأنهض من مكاني وأنا أقول لهم بحسم:
- سأخبركم الأمر المهم الذي يتوجب عليكم معرفته بدقة، حسناً لكنني لا أود أن أثير رعبكم؟!
أنتم لم تكتشفوا مكان المقبرة كما خُيِّل إليكم، لقد رأيت جميع الصور الملتقطة وهي لمقبرة فرعونية، اكتشفها فريق منذ قرابة السنة، لذلك عليكم حرق البحوث أو جعلها تذكرة، ربما إرسالها للجحيم إن أردتم؟!
لكن فلتأتوا غدا إلى مدينة سوهاج برفقة آدم وعقولكم فارغة من هذا الهراء و ليتواجد الجميع دون استثناء.
نهض الجميع و طلبوا الاستئذان للرحيل، أما أنا فقد حملت حقيبتي، و في جعبتي الكثير من الأسئلة، مشيتُ بوهن وأنا أشعر بأمر غريب يحدث، لم يذكر لي أي أحد قبل الآن جميع تلك الأحداث، هل أخطأت بقبولي تلك المهمة الغامضة؟!
صعدت السلالم برفقة الشاب الذي أبدى رغبته بمساعدتي في معرفة طريقي إلى غرفتي، كانت الغرفة تحمل نفس الرقم الموضوع على الملف الخاص بالبحث 180 ق.م.
أمسكت مفتاح الباب لأضعه في مكان القفل، لكنَّه فُتِحَ دون أي مشقة صادراً عنه أزيز مزعج مُحدِثاً جلبة تفوق الخيال، تفوح رائحة الرطوبة من داخلها.
50.
أمسكت حقائبي ووضعتها فوق السرير و أنا أنظر إلى الجدران كانت مُغطَّاة بورق جدران باللون الأخضر المقيت، وعلى الجدار الثالث تقبع صورة مائلة قليلاً تحمل داخلها صورة رجل عجوز قسمات وجهه توحي بالكثير من الجنون و الجموح، تحمل عينيه نظرات غاضبة مُحمَّلة بالكراهية و الانتقام.
أعادني للواقع شعوري بيد تمتدُّ لتلامس كتفي، لالتفت إلى الوراء، في البداية لم أرَ سوى يدي مجعدتين لرجل عجوز، كانتا ترتجفان باستمرار.
نظرت إليه وإذ به يجلس على الكرسي الخشبي في وسط الغرفة، بشفتين مذمومتين ووجه ممتلئ بالتجاعيد و البعض من الجروح القديمة.
تبين لي أنه الرجل المتواجد في الصورة المائلة خلفي، أشار إليها برفع أصبعه فاهتزت وعادت مستقيمة.
تبيَّن لي من قسمات وجهه بكونه محارب قديم شجاع، بل إنه لم يكن مجرد بيدق داخل المعركة ،أحد فرسانها و أكثرهم جرأة و قوَّة.
تذكرت حلمي ليلة أمس قبل مغادرتي للجزائر و القدوم إلى هنا.
51.
اقتربت منه و جلست على المقعد المقابل له و أنا أنظر إلى داخل عينيه، فخرجت الكلمات من فمي مُتعثِّرة وفوضوية:
-أهذا أنت؟!
احنى رأسه إلى الأمام و هو يضع يديه على أطراف المقعد الجالس عليه، ينظر إلي مرة و إلى العصا الخشبية المائلة بقربه أخرى، ثم تمتم لي بكلمات أشبه بالهمس:
- هل سبق لنا أن تقابلنا؟!
- ....
- لكنني أعرف عنك كل شيء يا محمد!
السبب من زيارتك مصر، ومغادرتك تيمقاد أيها الطفل البائس والعنيد.
أعلم حجم اشتياقك لعائلتك وحبِّك لهم، أنت شاب ذكي يا محمد.
ولأنك اخترت المكان المناسب الذي ستبدأ منه سأقول لك ونعم الاختيار، مملكة الدم المقدس مملكة مفقودة تحت الأرض الأولى، ولن تجدها إلا بإذنه الله و لنصرة الخير على الشر تذكر ذلك جيداً.
ليس من الغريب أبداً مجيء شاب مثلك إلى هنا و من أجل البحث عن مملكة الدم المقدس و
52.
تاريخها، لكنني لا أعتقد بكونك تخاطر من أجل المجهول فما بالك بماضي مملكة أهلكها الله غضباً لعصيانهم له؟!
وهل تعتقد أو تجزم بكونهم ملكان بريئان ضحى التاريخ بهما دون رأفة أو رحمة؟!
تيامين امرأة متجبرة ساحرة للرجال، وهذا هو السر في نجاح حكم الملك هيوماين باتحاد ممالك ثلاث حضارات مختلفة في الثقافات و الديانات و العادات والتقاليد أيضاً.
أخبرني يا محمد ما الذي حصل لتدمر مملكة مزدهرة أو سقوطها بهذا الشكل؟
- ربما كان الأمر بسبب حرب أنشبتها أنت؟!
خرجت الكلمات من فم محمد بانسيابية تامة، كانت ملامح وجهه ثابتة و لهجته تلقائية تخرج الكلمات ببرود و كأنها إجابة عن سؤاله بلغز آخر.
- لقد رأيتك تقف أمام أسوار المملكة و قد خرجت فتاة من إحدى أبوابها لتخبرك بشيء مهم و خطير، لدرجة أنك جثوت على ركبتيك و رحت تدعوا بأعلى صوتك بكلمات واضحة لتدمير المملكة و هلاك تيامين.
أتساءل إذا ما كنت أيها الفارس أحد ضحايا تلك المرأة الغاوية، أو أنك أحد عشاقها بسبب جمالها الأنثوي الطاغي.
53.
فغر الرجل فاهه وهو ينظر إلى محمد و ارتعدت فرائصه غضباً لكلامه الذي لم يكن ليتوقعه منه.
نهض عن المقعد بسرعة و تخطى المسافة القصيرة التي كانت بينهما بخطوة واحدة حتى أصبحا وجها لوجه، قال بصوت مثخن و كلمات فظَّة غليظة:
- إذاً لن تدع هذا الأمر؟!
أجابه بتحدٍّ و ثقة تامة
- أو أهلك دونه.
سار العجوز نحو الباب و هو يتكئ على عصاه الخشبية الغليظة، وهو يوجه له كلماته الأخيرة.
- لن يكون هذا لقاؤنا الأخير، أيها الباحث المتعجرف، لكنني سأبلغك بآخر رسائل السلام التي بيننا.
دع الأمر عنك، أو تحمَّل العواقب أنت و فريقك الجديد.
لن ينتهي الأمر عند هذا بل سيدخل في المعركة التي بيننا جميع من أحببت حتى أهلك الذين يعيشوا في فرنسا بسلام كما تظن، ستنقلب حياتهم رأساً على عقب.
و سأعطيك مهلة لثلاثة أيام لا أكثر، فكِّر جيداً قبل إخباري بقرارك النهائي
خرج من الغرفة وهو يصفع الباب خلفه بقوة، رجَّت الأرض من تحته، تنهَّد وهو يستلقي على السرير بشيء من الاستسلام و الحيرة، لربما
54.
كان هذا العجوز هو من جعل الباحث التاريخي الذي قبله يقدم على الاستقالة، أما هو فلن يستسلم قبل أن يعرف الحقيقة كاملة.
أخرجته نحو الواقع بحركة من يدها بعد أن قامت بإغلاق الكتاب وهي تتحدث إليه بفتور:
- أما الآن وقد اكتسبت فكرة بسيطة عن القصة داخل الرواية فأخبرني عن رأيك؟!
- حسناً قال لها وهو يضع الكتاب على الطاولة الصغيرة بينهما ويسند مرفقيه إلى المقعد مُعتدلاً في جلسته، كانت الشمس عاودت للشروق مرة أخرى تظهر أشعتها بين الغيوم تارة وأخرى تسطع بقوة لتخترق نوافذ القطار فتبعث على الدفء.
- أعتقد أنها قصة جميلة تحتاج إلى بذل مجهود أكبر، فأنا أشعر بنقص كبير بين حلقاتها.
السبب في تعيين مصر كمكان للآثار أو حتى المملكة هو أن الفراعنة أكثرهم منتشرين في تلك البلاد، لكنهم أيضاً متواجدين في بلاد عدة وليس حكراً على ذاك الوطن هذا أولاً، ثانياً لم أعلم ما هو السبب في بدء الرواية من المحكمة و القضاء بدلاً عن كتابتها منذ دخولهم المملكة طالما كانت القصة خيالية فبإمكانك كتابتها والغوص داخل عالم الخيال كما يحلو لك فلماذا قمت بوضع حدود لكل ما قمت بكتابته؟!
55.
حتى أنني أحببتُ وجود مملكة تجمع بين حضارات العالم، لذلك قررت إكمال قراءة الرواية ولكن بعد سماعي إجابتك عن جميع أسئلتي.
- أما عن حدوث فجوة كبيرة فهو لجعل القارئ يتخيل البعض من الأحداث، وخلق مساحة إبداعية لديه بدلاً عن إعطائه جميع تلك الأحداث ورسمها له.
أردفت قائلة: وأما المملكة فلم تكن داخل مصر، وإنما البوابة لدخول العالم الموازي كان من خلال تلك الأرض لكونها الأكثر خصباً بذاك التاريخ وإن تواجد في بلاد كثيرة.
وعن سبب بدء تلك الرواية داخل المحكمة لأقول للعالم بأن بعض العلوم والأساطير لم تخلق من الوهم أو العبث، أتعلم يا صديقي بأمر خرافة؟!
تركت مساحة من الفراغ كمن يقوم بنثر ثلاث نقاط على سؤاله بدلاً عن إشارات الاستفهام قبل أن تكمل:
- خرافة هو رجل رأى عالم الجن وتعايش معهم حتى رأى من قصصهم العجب، وحينما عاد إلى عالم الأنس بدأ يروي للناس حوله ما شاهده داخل ذلك العالم، والغرائب التي حصلت أمام ناظريه، حتى سُميت بتلك القصص بالخرافية.