في التاسع من شهر ذي الحجة، تقف القلوب قبل الأجساد، وتُحلّق الأرواح قبل الأقدام، فها هو يوم عرفة قد أقبل، يومٌ ليس كمثله يوم، فيه يُفتح باب السماء، وتُسكب الدموع، وتُقال العثرات، وتُعتق الرقاب.
يخرج الحُجّاج من منى مع شروق شمس هذا اليوم العظيم متجهين إلى صعيد عرفات، ذلك الجبل الذي شهد وقفة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ووقف عليه خاتم المرسلين يخطب الناس ويوصيهم، وكأن الأرض كلها صمتت لتسمع خطبته.
على عرفات، لا شيء يُطلب منك إلا أن تقف بقلبك، أن ترفع يديك، أن تهمس لربّك بما في صدرك، أن تفتح كتاب عمرك وتقرأه مع الله… فالله في هذا اليوم قريب، أقرب مما تظن، يسمع أنينك، ويغفر زلاتك، ويجبر كسرك، ويبدّل سيئاتك حسنات.
"الحج عرفة" كما قال رسول الله، لأن لحظة الوقوف على هذا الجبل هي جوهر الرحلة، وهي اليوم الذي يُقال فيه لمن وقف: قد غُفِر لك.
لا فرق في عرفة بين غني وفقير، ولا بين صاحب جاه أو بسيط الحال... الكل يرتدي البياض، الكل واقف، الكل يرجو، الكل يتساوى، فالوقوف هنا لا يرفع فيه إلا الصدق، ولا يُقبل فيه إلا الخضوع.
وفي كل بيت بعيد عن عرفات، في كل قلبٍ لم تُكتب له الحجة، هناك صيام ودعاء، لأن صيام يوم عرفة يُكفّر ذنوب سنتين، سنة مضت وسنة قادمة.
فرحمة الله في هذا اليوم لا تقف على الجبل وحده، بل تمتدّ لتشمل من أحبّ وصدق ولو من بعيد.
يوم عرفة... هو اليوم الذي يعود فيه القلب إلى أصله، والعين إلى دمعتها، والعبد إلى ربّه.
هو اليوم الذي تُمحى فيه الخطايا وتولد فيه القلوب من جديد.
فطوبى لمن وقف، وطوبى لمن صام، وطوبى لمن دعا من أعماق قلبه وقال:
"اللهم لا تردني خائبًا وقد وقفت ببابك."
وغدًا تبدأ الرحلة من جديد…
رحلة الجمرات، والنحر، وأيام العيد…
لكن القلب سيظل يقول دائمًا: كان في عرفة شيء لا يُنسى.
ودمتم بخير---