أولُ كتابٍ قرأتُه في التصوف، وكان له الأثرُ العميق في قلبي وفكري، هو كتاب “الرعاية لحقوق الله” للإمام الحارث بن أسد المحاسبي. لا أعلم على وجه الدقة إن كنت قد اخترت الكتاب أم أنه اختارني، لكنّني أذكر جيدًا كيف بدا لي في قراءتي الأولى وكأنّه نُسج من خيوط ضوءٍ نادرة، فيها خشية، وصدق، ونبرة خافتة كأنها همس نفس تُحدّث ربّها في الليل البعيد.
قرأتُ “الرعاية” لا ككتاب وعظي أو تراثي، بل كـنصّ مفتوح على الباطن الإنساني، يأخذ بيد قارئه، لا ليعلّمه فقط، بل ليوقظه. ومذّاك، أخذتُ أعود إليه، لا بحثًا عن معلومة، بل لأتذكّر: من أين يبدأ الطريق؟ وكيف يُصان القلب من الزلل، حين يغدو الناس إلى الظاهر وينسون مواقيت الباطن.
المحاسبي والرعيل الأول من السالكين
ينتمي الحارث المحاسبي (ت. 243هـ / 857م) إلى الجيل الأول من الذين لم يكتفوا بالزهد سلوكًا، بل سعوا إلى تدوين التجربة الباطنية الإسلامية. لم يكن “صوفيًا” بالمعنى المتأخر للكلمة، بل ناسكًا متفكرًا، جمع بين الفقه، والكلام، والمحاسبة الدقيقة للنفس، حتى صار لقبه مرآة لمنهجه: “المحاسبي”.
لم يكن يعيش في عزلة تامة، لكنه كان غريبًا بين الناس، ينظر إلى أعماقهم حين ينشغلون بالسطح، ويرى في السكون فرصة للمراقبة، وفي الخوف دافعًا للصدق، وفي الرجاء لُحمة الأمل التي لا تنقطع.
الرعاية: أول كتاب صوفي بالمعنى العميق
كتاب “الرعاية لحقوق الله” هو أول تأليف متكامل في التصوف النظري والسلوكي وصل إلينا، وقد ميّزه أمران: الدقّة المنهجية في تربية النفس، والصرامة الأخلاقية في محاسبة السلوك. لم يكن المحاسبي يكتب ليعجب الناس، بل ليخاطب مَن قرأه وكأنه يتلو عليه وصاياه الأخيرة.
في “الرعاية”، لا نجد ألفاظ الغموض ولا استعارات الذوبان، بل لغة صفاءٍ مبنية على الخوف من الغفلة، وعلى أمل الوصول إلى الله عبر صدق النية، وطهارة القلب، ومجاهدة الهوى. إنه كتاب يعلّمك كيف تُقيم الصلاة بقلب خاشع، لا ببدن متوتر، وكيف تنظر إلى النعم كأمانات، لا كحقوق مكتسبة.
أثر “الرعاية” على من جاء بعده
لم يكن المحاسبي منعزلاً عن تيارات عصره؛ لقد خالف المعتزلة، وتحفظ عليه الفقهاء، لكنه ترك في طريق العارفين أثرًا لا يُمحى. لقد تأثر به الجنيد، واستلهمه القشيري، واستفاد منه الغزالي، واستعادوه لاحقًا حين أرادوا تأسيس “علم التصوف” كعلم مستقل.
وما يميّز “الرعاية” عن كتب الزهد السابقة عليه، مثل أعمال إبراهيم بن أدهم أو الفضيل بن عياض، أنه كتاب تعليم، لا رواية أخبار؛ يضع خريطةً للسالك، لا يُغنيه عنها الحفظ وحده، بل تدعوه إلى التجربة الذاتية.
لماذا نعود إلى المحاسبي اليوم؟
ربما لأننا نعيش زمنًا كثيفًا في كل شيء: في الضجيج، في الطلب، في الركض. لقد أصبح البحث عن الصمت شذوذًا، والتأمل ترفًا، والصدق. في هذا الزمن بالذات، نحتاج إلى من ينبّه قلوبنا، لا من يملأ عقولنا فقط.
“الرعاية” ليس نصًا للتاريخ، بل مرآةٌ للراغبين في تربية النفس، بأسلوب لم يأتِ فيه ترف الشعر ولا غموض المصطلحات، بل كلمات تخرج من قلبٍ قد جرّب، وذُبِح مرات، ثم خرج يقول: هذا الطريق صعبٌ، لكنه الحق.
خاتمة
أن تقرأ “الرعاية” في القرن الحادي والعشرين، يعني أن تستدعي قلبًا من القرن الثالث الهجري ليدلك على الطريق. قد لا تجد فيه كل الإجابات، لكنه يعطيك المفتاح: أن تعود إلى داخلك، وتسأل نفسك كل يوم: هل حفظتَ اليوم حقًا من حقوق الله