خيال الضل
" أريد الرحيل .. هذا العالم لا يناسبني. ليس تعاليا أو حقدا ولكن عدم اندماج مع محيطي. تساورني الهواجس أني لا انتمي لهذا المكان شعور بالغربة مع كل المفردات والشخوص من حولي. كل المحسوسات تشعل الحرائق على ظهري بسياط مغموسة في الزيت لتترك علامات نارية على كل خلايا جسدي من الداخل. أكره هذا العالم أريد ان اتركه لكن إلى أين؟ "
Dr. S.
في صباح يوم مشرق جميل . التقى دكتور سرور بمجموعته البحثية في سقارة المنطقة التي تعد جزءا هاما من جبانة منف. حيث بدأ طلبة الماجستير يكملون مهمتهم في أواخر أيام بعثتهم التخصصية وهم يتفحصون مقابر الأسرة الأولى والثانية و يدونون الملاحظات عن ملوك الأسرتين الرابعة والخامسة و أهراماتهم المنتشرة هناك.
و أمامهم تلك النقوش لنصوص الأهرام في غرفة دفن احد ملوكها العظام والتي نقشت لحماية الملك خلال رحلته في العالم الآخر. لم تكن مهمتهم البحثية تتضمن الهرم المدرج أقدم بناء حجري ضخم هرم الملك نيت جيريخت، أحد ملوك الاسرة الثالثة والمعروف باسم زوسر فهو الاسم الاشهر بناه له وزيره إمحوتب أقدم مهندس معماري في التاريخ و الذي رفع بعد وفاته لدرجة معبود و أصبح إله الطب.
رفض دكتور سرور اي دراسة جديدة عن الهرم المدرج فقد أشرف على عشرات الرسائل عن هذا الموضوع بالذات حتى أصبحت تفاصيله الدقيقة تراوده في أحلامه.
أين فريد؟ سأل بنبرة حادة تحيطها الريبة. أخبروه أنه عند مدفن العجل المقدس " أبيس " الذي كان بمثابة تمثيل للمعبود بتاح. احد أهم معبودات منطقة منف. و قديماحين كان يموت العجل كان يتم دفنه في احتفالية مهيبة حتى يتم العثور على خليفته.
جاء فريد مسرعا فقد حان وقت المغادرة إلى مكتب دكتور سرور في الجامعة لمناقشة أحداث اليوم و التخطيط للزيارة الاثرية القادمة حسب جدول الأعمال المعد مسبقا و الذي شارف على الانتهاء . اعتذر فريد عن التأخير: آسف يا دكتور كنت أدون بعض الملاحظات الهامة عند " السرابيوم ".
لم يفهم لماذا تغيرت ملامح دكتور سرور. هل لم يرد لأحد أن يذهب إلى هناك.؟ وكيف بدا وكأنه نال لكمة في فكه فامتعض بشدة وكأن كلمة السرابيوم صفعته على وجهه فلونته باللون القرمزي؟
في المساء أخرج دكتور سرور بدلته السوداء الاسموكن ونظراته الحانقة تلاحقها وهي معلقة في مكان ناءٍ من دولابه الضخم ، فكم يكره ارتداء هذه النوعية من الملابس الرسمية التي تخنقه بقيوديها التقليدية القديمة، فما له بزي من القرن التاسع عشر صُمم من أجل اجتماع الرجال في قاعات التدخين و من هنا اكتسبت اسمها. وهو الذي لم يدخن سيجارة واحدة فيما مضى من حياته ولن يفعل، ولولا أن زيلت الدعوة بتلك الجملة البغيضة " black tie" ما ارتداها ولا ذهب لدار الاوبرا اليوم و لكنه سيفعل اليوم إكراما لأصدقائه الايطاليين الذين سيلتقي بهم هناك لمشاهدة عرض رائع من أوبرا عايدة يؤديه الفريق المصري المتميز جدا والذي اصر الاصدقاء الاجانب ان يشاهدوه بأدائهم فهم يعرفونهم جيدا..د.إيمان مصطفى و عمرو مدحت و عماد عادل و جولي فيظي وباقي ابطال العرض الرائعين.
ولكن لا بأس من ارتدائها اليوم فهي تناسب هذا العرض الضخم الذي قدم لأول مرة في نفس الحقبة الزمنية حين كلف الخديوي اسماعيل الموسيقار الايطالي جيوسيبي فيردي بتأليف موسيقى أوبرا عايدة نظير ١٥٠ الف فرنك من الذهب على كلمات انيقة كتبت بيدي عالم المصريات الفرنسي ميريت باشا. و قد عثر عليها عالم الآثار الفرنسي اوجست ماريتا في مخطوطة قديمة. فكانت اوبرا عايدة التي بنيت من أجلها دار الاوبرا القديمة في افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ العرض الذي صممت الملابس و الديكورات الخاصة به بفرنسا وتكلفت ٢٥٠ ألف فرنك. و قد اقيم وقتها حفل ضخم حضرته الامبراطورة اوجيني وامبراطور النمسا وملك المجر وولي عهد روسيا و شقيق ملك هولندا وغيرهم من الشخصيات ذات الحيثية.
فالاسموكن او التوكسيدو هي انسب ما يرتديه المرء ملاءمة لفخامة ذكريات اسطورية مضت وعرض أكثر فخامة سيستمر حتى قيام الساعة كما يرى هو وغيره .
الجميع مندمج مع روعة الأحداث. هائمون في خيالات ساحرة لموسيقى فيردي واصوات من الجنة لمطربين عظام. العرض مهيب يمضي في انسيابية وتناغم إلى أن ضرب أُذني دكتور سرور صوت راداميس والمطربين وهم يكررون بلغتهم "بتاح العظيم"
للمرة الثانية اليوم يتكرر على مسامعه هذا الاسم. منذ كان فريد قادما من عند عجل أبيس صباحا في السرابيوم.
انتهى يوم طويل مرهق تبعه حمام دافئ كان الجسد المنهك في أشد حاجة اليه. غفا بعده سريعا عند أول لمسة لفراشه الوثير.
لم تمر ثوانّ حتى هزته بعنف يد أيقظته من نومه العميق وهو الذي يجد دائما صعوبة بالغة في النوم. وصوت ضحكات ذات صدى مرعب تناديه. استيقظ وأمامه هذا الشبح المرعب الذي يطارده كل يوم في يقظته و نومه مفرغا من الملامح و باقي التفاصيل لكنه يعلم عنه كل خفاياه واسراره يحفظها عن ظهر قلب ويذكره دائما بسقطاته و افكاره السوداوية وما يكنه من رغبات مكبوتة و اصرار شديد على الانعزال عن كل المحيطين به من طلابه و زملائه في العمل وحتى الأقارب الذين قاطعهم ضمنيا دون ان يخبرهم لكنه انعزل عن كل مناسباتهم وتجنب اي لقاءات تجمعه بهم. فكان دائما يعتذر معللا ذلك بانشغاله الدائم. لم يبق له إلا بعض مجاملات العمل للبعثات المختلفة من الاثريين والتي يفعلها مضطرا او مجبرا رغم الابتسامة البلهاء التي لا تفارق وجهه العابس دائما..
كيف أتخلص من هذا الشبح الأسود اللعين؟ ماله يطاردني في كل مكان؟ كيف اهرب منه و أختفي عنه في مكان لا يصل إليّ فيه وأُرحم نفسي من ضحكاته و سخريته؟ كم تمنيت أن أكون رحالة برتغالي استكشف كل بقاع الأرض. هربا منه. تعجبني قصصهم ومغامراتهم في البحث عن جزر البهار. سيرهم مبهره حتى من ارتكب الجرائم منهم وقتل الحجيج أو ساق العبيد. فكم تمنيت ان أكون أمريجو فيسبوتشي الذي فكر أن سواحل امريكا الجنوبية ماهي إلا قارة جديدة حتى قبل أن يكتشفها كريستوفر كولومبوس لذلك سميت أمريكا على اسمه او أن يُسمى مضيقا يربط الأمريكتين باسمي كفرناندو ماجلان بعد رحلاته حول العالم.
أو بارثولميو دياز أوحتى فاسكو ديجاما. لم لا أكون أحد الرحالة العرب و يضاف اسمي لإبن بطوطة والمقدسي و الإدريسي و ابن حوقل أو ابن جبير الاندلسي.
عشت أوقاتا ممتعة وأنا أقرأ عن الأدميرال ريتشار بيرد ورحلاته بطائرته فوق القطب الشمالي والجنوبي. هل أتمكن يوما أن أنفذ من خلال الثقب الضخم ذو القطر العملاق الذي يصل إلى أربعمائة كيلو متر فوق قارة أنتاركتيكا في الجنوب وأمر من خلاله للمدن الجوف ارضية كمدينة رينبو و أجارسيا؟ فألتقي بعمارها من الرماديين و النورتكس. لأهرب من شبحي التوأم الذي يطاردني دائما فوق الأرض. ربما لا مفر منه إلا في جوفها. هل يمكن لغاز الشفق المتصاعد ان يذيبه و يصبح فقيد الأورورا؟ هل يعقل أن يكون شبحي أحد هذه المخلوقات الغريبة؟ من أي جنس هو وما كم المعلومات و أدقها التي يعلمها عني؟
كلما حاولت ان أهرب منه يحاصرني عن اليمبن والشمال و يكبر و يصغر ويزداد طولا و قصرا إمعانا في إرهابي و إذلالي. يختفي أثره في الظلام و عند تعامد الشمس و توسطها كبد السماء. لكن لا تفارقني ضحكاته الهستيرية المستهزئية التي تثير جنوني. احتقره حين يسخر مني وانا اتلفت حولي ابحث عنه في كل مكان لأتقيه. أي مخلوق هذا؟
ها هو يهزأ مني مجددا ويتحداني. ينصحني بعدم الاتجاه لأي مكان فحيثما ذهبت سأجده هناك فالاشباح يجوبون الارض و يملكون من العلوم ما لا يملكه كثير من البشر.
لم أصدقه حتى أخبرني عن أنفاق طيبة السفلية عند جبل التونا في إدفو
حيث مملكة الأموات " دوات" و أوزيريس إله الحياة الأخرى وحارس البوابة الإله أكر الذي يفتح بوابته الى العالم السفلي.
امتزجت ضحكاته بالكلمات فانتجت طلاسما و رموزا وشفرات بصورة فجة من السخرية والتنمر على فكرة الهروب لأقصى بقاع الأرض، فلِمَ أكابد مشقة السفر للقطب الجنوبي وأحد أكبر المدن الجوفية ببواباتها عند قدمي الهرم الاكبر و عند منطقة سقارة حيث قبر الثور في السرابيوم. عجل أبيس الذي يرمز للإله بتاح.
لا لا.... ليس بتاح مرة أخرى؟ انها لعنة الأجداد القدامى لا شك في ذلك. أصمت. كف عن حماقاتك. لا التفوه بهذه التراهات.
لكن ضحكاته ظلت تعلو وتعلو حتى صرخت في وجهه لأسكته.
استيقظت على طرقات قوية متتابعة على باب منزلي. هو جاري البروفيسور نور مجدي. عالم النفس الجليل والحاصل على جوائز الدولة إلى جانب اسهاماته القيمة في المؤتمرات الدولية والإقليمية. أقلقته صرختي المدوية فجاء للاطمئنان عليّ. اعتذرت منه فقد كان كابوسا مزعجا يتكرر كثيرا. لكنه نصحني نفس النصيحة التي لم يغيرها منذ سنوات أن أكف ولو مؤقتا عن أبحاثي وقراءاتي المتعمقة أو ربما توجب علي أن أغير نوعية ما اقرأه لأمور أبسط وأقل تعقيدا وألح علي وشدد أن ازوره في عيادته او غرفة مكتبه الملحقة بمنزله وقتما يتسنى لي ذلك.
مرت دقائق وانا استرجع أحداث الحلم المزعج المتكررة. وشغلتني فكرة القرب التي أثارها هذا الشبح. فقد يكون بالفعل ما نبحث عنه ونجوب الأرض تلمسا له قد يكون أقرب إلينا من حبل الوريد. بينما أنا غارق في أفكاري انطلقت بخطوات متباطئة لألتقط الهاتف و
أجريت اتصالا بجاري بروفيسور نور لأحدد موعدا لزيارته. يبدو انه كان ينتظر هذا اللقاء حتى أنه دعاني لمنزله الآن،فلا أحد بالمنزل وقد خرج الجميع وهو بمفرده ينتظرني.
استمع إلي في جو مريح يبعث على الاسترخاء والسكينة من الاضاءة و الموسيقى وحسن الانصات. وقد أيد فكرة القرب التي شغلتني بل زاد عليها أمرا لم اتوقعه.
قال لي: ما رأيك لو تبحث عن ضالتك في مكان آخر. لا عند القطب الجنوبي ولا سقارة. لا فوق الارض ولا في جوفها. رأى علامات الفضول والحيرة تشكل ملامح وجهي. فبادرني. ابدأ رحلة استكشافية إلى الداخل. داخل ذاتك لا خارجها.
ثم هب واقفا ومد يده للسلام علي وتوديعي. و كأنه لم يرد ان يزيد على ما قاله تاركا لي نقطة الانطلاق لبدء هذه الرحلة التي لم افكر يوما في خوضها..
ولكني فعلت.
في بداية رحلتي هالني ما صادفت و رأيت بل أني لم أر شيئا. كل الأماكن يلفها ظلام الجهل جُبت مناطقا مجهولة لم أطأها لا أنا ولا غيري داخل ذاتي. واجهت مخاوفي التي رافقتني منذ انطلقت في رحلتي و من قبلها كانت تلازمني لسنوات. لم أخش يوما من الوحوش الضارية ولا آكلي لحوم البشر وأنا أتنقل في كل مغامرة أستطيع الوصول اليها من خلال اسفاري وجولاتي في كتب القدماء واحفادهم المعاصرين. لكن شيئا كان يثير رعبا في نفسي خلال رحلتي لاكتشاف الذات التي اختبرها لأول مرة. كيف لم أفكر من قبل أن ازور تلك المناطق المظلمة بداخلي؟
أعرف ما أخشاه جيدا. استطيع تمييز انفاسه. تلفحني حرارة تلك الأنفاس وأسمعها مضطربة متقطعة كلما اقتربت. أنفاسا يحاول هو ان يبتلعها حتى لا أحدد مكانه. ترى هل أنا فعلا أخشاه أم تراه هو من يخشاني وهو الذي ظل دهرا يذلني و يسخر مني و يعيرني بكل ما أردت اخفاءه حتى عن نفسي. كلما كنت أغوص في الداخل كلما سجلت اكتشافات أكثر واكثر. زادت حدة انفاسه وتسارعت و بدا على تردداتها المتضاربة الوجل والرعب الشديد. لم أخَف. سأواجه. لأصل إلى أعمق نقطة في ذاتي. رغم أني لا أدري ختى الآن اين هي في كل هذا الظلام. لكنه ظلام لا يلبث أن ينقشع ويتبدد شيئا فشيئا حتى تتقلص البقع المظلمة جميعا . انحلت آخر بقعة مظلمة. تبددت كما تُبدِد الريح السحاب وتفتتها لشذرات. انفتح آخر الأبواب المؤصدة بعد أن نسفت أقفالها الصدئة بيدي. مَن هذا الذي يقبع في الركن الأشد ظلمة على الاطلاق.
عجبا انه شبحي التوأم. ظلي الذي كان يطاردني وكنت اتعجب من ملازمته لي حتى في أحلك الليالي واشدها ظلمة. لم أفهم لماذا يطاردني في كل مكان مهما حاولت الهرب منه. لكن الآن وقد علمت جيدا أنه لم يكن إلا في الداخل مني فكيف الهرب وقد استعصى و استحال الانفكاك عنه. لم يكن هناك بد إلا بالمواحهة. هي السبيل الوحيد للتعرف عليه. أخيرا زار النور هذا الركن الحالك الظلمة زلن يتركه فبدأت تظهر لهذا الظل الشبح ملامحا كملامحي وكأنه أنا انظر إلى نفسي في المرآه. بدت علي جفونه آثار دموع جفت لاتقوى على مواجهة هذا النور. نور البصيرة. ناقشته فاعترف لي بصوت واهن بعيدا عن السخرية فلم يعد قادرا على ذلك. اعترف بكل ما واجهه من عقد و مخاوف و أنا أحلل و أفكك تلك العقد والمخاوف وقد تقمصت دور برفيسور نور. لم يلبث أن ذاب أمامي مع كل مشكلة توصلت فيها معه إلى حل. تلاشى حتى ذاب في جدول صغير و انساب خارج ركنه الذي سكنه عقودا لم يبرحه واختبأ فيه مني بعدما أضيئت منه كل جنباته.
مرت الأيام و الاسابيع. لم تعاودني هلاوس ظلي الذي يطاردني بل لم أعد الحظه و أنا الذي كنت يوما اتعثر فيه أثناء مسيري. ترك مأواه داخل ذاتي و تحرر. ضحكت من ايام مضت كنت فيها طفلا يشاهد خيال الظل و يتابع حركة الدمى الصغيرة المظلمة خلف الستار لأرى ظلها على الستائر فأتخيلها شخوصا حقيقة متفاوتة الأحجام. هذا الفن الذي عرفه العرب في العصر العباسي قادما من بلاد الهند و الصين و فارس تلاعب بعقلي وبصري كثيرا فشتتني حين أردت ان أصدق أن الدمى واقع وما اشاهده حقيقيا. بل كنت كالعصافير تخشى الفزاعة أو خيال المآتة و قد بُعثَت فيه الروح من خلال عقولها الصغيرة فأفزعتها حركته التي تحدثها به أقل نسمة هواء.
اليوم أنا أكثر نضجا من ذي قبل. ربتني المواجهة وأنضجتني الرحلة. فارقتني الكوابيس الكئيبة المفزعة فلن تفلح مجددا في ارهاق نفسي التي عادت إلي. اختفت كل الهواجس وراء الأفق البعيد. غربت شمسها الأرجوانية ذهبت مع الشبح إلى غير رجعة لتشرق شمس الأمل وانطلاق الروح .عادت الضحكات الصادقة مع طلابي وأقاربي و أصدقائي. نمت قرير العين بلا منغصات او مهدئات.
واجهت الظل داخلي بنور المعرفة و صولجان المواجهة فلم يعد يؤرقني ظلي مهما تبعني، فالآن هو صديقي الذي أحبه و توأمي و أثري على هذه الارض.