شطحات رحلة
٤.النمر والظبية
لم تمنعها أنفاسها اللاهثة من الالتفات المتكرر إلى الوراء فبرغم أنه كان يعطلها كثيرا و يؤخر خطواتها، إلا أن فضول المرتعب من مصيره القاتم وقد دنا أرغمها على التكرار مرات و مرات. ها قد اقترب منها كثيرا رغم مناوراتها للالتفاف وتغيير الوجهة. و ماذا تفعل محاولاتها اليائسة أمام سرعته و
مهارته وخبراته؟ لكنه الأمل في النجاة.
كان باستطاعته اللحاق بها منذ البداية لكن لذة الصيد فرضت عليه صبرا يمنحه مزيدا من الاستمتاع. وارهاق طريدته وتيئيسها يعد من أهم قواعد الصيد.
تطلعت للقطيع البعيد الذي شذت عنه في مغامرة غير محسوبة العواقب و رأت أفراده يمرحون فوق العشب الأخضر والكلأ وتمنت لو انها لم تفارقهم لحظة فقد كانوا لها حصن الأمان الذي تأوي إليه طيلة ما مضى من حياتها التي شارفت على الانتهاء.
تمنت لو تستريح لحظات لالتقاط الأنفاس و كيف لها ذلك وهي تعلم أنها لحظات فارقة بين الموت والحياة.
بلغ الإنهاك منها مبلغه وخارت قواها حتى سيقانها الأربعة لم تعد تقوى على حملها. توقفت فجأة ونظرت إليه. دققت النظر أكثر في عينيه. هي لا تتحداه ولا تستعطفه لكنها ارادت أن تستقبل قدرها بكل ما تحمله من شجاعة. و إن لم تكن تحمل منها الكثير لكن ما تبقى لديها يكفي للمواجهة. تقدم منها خطوات ببطء و رصانة ثم توقف، فتراجعت للوراء خطوات كخطواته. كان كلما تقدم خطوة تقهقرت هي للخلف خطوة لتبقى المسافة بينهما ثابتة بلا نقص أو زيادة. لحظات توقف لها الزمن. رأت نفسها وهي وليدة ضعيفة مهتزة السيقان لا تستقيم أطرافها بل تنحرف وتتباعد لتسقط أرضا في محاولات متتالية للوقوف بثبات. وهي اليوم اضعف من الأمس. اطرافها كتلك الأطراف الأولى لا تستطيع الوقوف عليها رغم الكيلومترات التي قطعتها عدوا. لكن لا مفر من القدر وقد فعلت ما بوسعها ولم تستسلم. فشرف لها أن يأكلها نمر تعب وعانى من أجل فوز لم تجعله سهلا على أن تموت ميتة عادية فتأكلها الضباع و النسور جيفة مترممة.
_ لم توقفت عن المطاردة؟ هل رأفت لحالي؟
_ و هل ترأفين بالعشب والحشائش حين تقتلعيها من جذورها وتمضغين أوراقها الغضة؟ إنما أنت رزق ساقه الله لي. انا لست عدوا لك ولكنك تمثلين طعامي؟
_ إن كان الأمر كذلك،فلم توقفت؟
_ أريد أن أمنحك فرصة أخرى
_أي فرصة التي تتحدث عنها وأنت على يقين أنه لا سبيل إلى النجاة.
_ فرصة الموت بكرامة وشرف فكل منا سيموت يوما و خير له أن يموت بكرامة على أن يعيش خانعا وقد فقد كرامته.
_وهل للهارب كرامة؟
_ الهرب وسيلتك للدفاع فلا تعدينه تخاذلا، انما هو أخذ بما تمتلكينه من أسباب.
كان لتلك الكلمات وقع كالسيف عليها.
انطلقت تعدو وتعدو بلا نظرة واحدة إلى الوراء فهي ليست خائفة و لا تعدو هربا منه ولا فرارا من قدرها و لكن انتصارا لكرامتها. كانت كلما قطعت المسافات كلما زاد فخرها حتى غابت عن الوعي ولم تغب عنها كرامتها.