أمَا آنَ لهذا الضجيجِ بعقلي أنْ يَخْفُت؟
أطفأتِ الأضواءَ بالغرفةِ لتشتعلَ الأضواءُ بعقلِها، وتحيلَ رأسَها إلى سيمفونيَّةٍ صاخبةٍ...
تناولتْ هاتفَها، وضعتْ عليه سورةَ يوسفَ التي تُحبُّ سماعَها كلَّما شعرتْ بالقلقِ أو استعصى عليها أمرٌ.
احتضنتْ (مشمش) وهمستْ له قائلةً:
هل حقًّا أنا أتوهمُ ذلك؟
يا ربَّ، رفقًا بعقلي وقلبي، فما عُدتُ أحتملُ.
تثاءبتْ وهي تحاولُ جلبَ النومِ إلى عينيها، ولكنْ هيهات، فذلك الصَّخَبُ يملأُ رأسَها، والضجيجُ يستحوذُ على عقلِها.
لا تدري (حُلْم) هل نامتْ حقًّا أم ظلَّتْ مستيقظةً، ولكنَّها واثقةٌ أنَّ صورةَ ذلك الشَّخصِ لم تُفارقْ خيالَها لحظةً واحدةً، وصوتَ (فَرَح) ما زال يتردَّدُ في أُذُنَيْها:
"وما في ذلك؟ ستكونين كأيِّ شخصٍ من روَّاد الكوفي شوب، يتناولُ فنجانًا من القهوةِ..."
ثوانٍ وتتوقَّفُ الحافلةُ عند تلك الإشارةِ، تشعرُ وكأنَّ عقلَها قد أصابه الشَّللُ من كثرةِ التفكيرِ، دقَّاتُ قلبِها تعلو وتنخفضُ، وأنفاسُها تتلاحقُ كأنَّها في سباقِ الألفِ ميلٍ.
ترى هل يتهامسونَ عني؟
أثارَ استغرابَها ودهشتَها نظراتُ الرُّكَّابِ بالحافلةِ، تشعرُ وكأنَّ نظراتِهم تخترقُها، وتلك الابتساماتُ على وجوهِهم وشفاهِهم...
هل بسببي أنا؟
هل هم حقًّا يراقبونني؟
لا، لا، هم لم يلاحظوا شيئًا، بالتأكيدِ هم يتصرَّفون بطبيعتِهم، ولكنَّني أنا من تظنُّ هذا... أو يُخيَّلُ لي.
يا الله، رفقًا بي، وألهمني الصَّواب...
ماذا أفعل؟
ثوانٍ وتتوقَّفُ الحافلةُ عند الإشارةِ.
هل أُكمِلُ رحلتي ككلِّ يومٍ إلى البيت؟
أم أغادرُ الحافلةَ وأتوجَّهُ إلى هناك؟
هل أُثبِتُ لـ(فرح)، ولنفسي أوَّلًا، أنَّ كلَّ هذا حقيقيٌّ، وليس وَهْمًا أو من نسيجِ خيالي؟
أم أتركُ كلَّ شيءٍ وراء ظهري وأعودُ لحياتي الهادئة؟
حاولتْ بكلِّ الطُّرقِ أن تتوصَّلَ إلى قرارٍ، وفشلتْ... العَرَقُ يكسو وجهَها، ونظراتُ عينيها زائغةٌ، وأفكارُها مشوَّشةٌ، وها هي الحافلةُ قد توقَّفتْ.
حاولتْ — وبكلِّ جهدٍ وإصرارٍ — أنْ تتجاهلَ النظرَ نحوه، تجاهلتِ النظرَ إلى جهةِ اليسارِ حيثُ قلبُها، وحيثُ حُلْمُها أو قَدَرُها، حاولتْ أن تتحكَّمَ بتوتُّرِها.
تذكَّرتْ أنَّ العدَّ العكسيَّ من المائةِ وحتى الصفرِ يُزيلُ التوتُّر، وبدأتْ بالعدِّ من الرقمِ مائةٍ، وقبل أنْ تصلَ إلى الرقمِ ثمانين، كانت تنظرُ باتجاهِه...
للوهلةِ الأولى شعرتْ بالصَّدمةِ...
هو — وللمرَّةِ الأولى — ليس متواجدًا!!!
ها هي المائدةُ، وها هي أشياؤه عليها: ذلك الكتابُ، والقلمُ، والأوراقُ المتناثرةُ، حتى نظَّارتُه!
وقبل أنْ تُفيقَ من حيرتِها وتساؤلاتِها، وجدتْ نفسها خارجَ الحافلةِ باتجاهِ الكوفي شوب، والحافلةُ تُغادرُ، وكأنَّها تقطعُ عليها أيَّ طريقٍ للتراجعِ.
سارتْ كالمغيَّبةِ أو المسحورةِ، شيءٌ ما يجذبُها، أو قوى غيرُ مرئيةٍ هي ما يتحكَّمُ بخطواتِها...
حملتْ ذلك الكتابَ، وضعته على صدرِها وبالقربِ من قلبِها، ربَّما تحاولُ أن تُخفيَ صوتَ دقَّاته العاليةِ حتى لا تفضحَها، أو ربَّما تحاولُ أن تمنعَ قلبَها نفسه من مغادرةِ موضعِه بين ضلوعِها والقفزِ خارجًا.
مشاعرُ متناقضةٌ تنتابُها في الوقتِ نفسه: خوفٌ وقلقٌ، جرأةٌ وإقدامٌ، خجلٌ ممزوجٌ بالحنينِ، تشوُّقٌ ولهفةٌ لوضعِ حدٍّ لكلِّ هذا... تتقدَّمُ خطوةً وتتراجعُ خطواتٍ.
وفي خضمِّ هذه الأحداثِ، تلمحُ (هرةً) صغيرةً تموءُ بصوتٍ موجوعٍ، ولا تقوى على الحراكِ، ربَّما وقعتْ من مكانٍ مرتفعٍ أو تعرَّضتْ للأذى بشكلٍ أو بآخر.
لم تتردَّدْ (حُلْم) لحظةً واحدةً في حملِ (الهِرَّةِ)، والتوجُّه بها إلى صيدليَّةٍ قريبةٍ من المكان.
طلبتْ من الصيدليِّ بعضَ الضماداتِ لإسعافِ (الهِرَّةِ)، فلمحتِ الدهشةَ على نظراتِه وهو يقولُ لها:
أهي لكِ؟
قالتْ له: هي روحٌ قد خلقَها الله، ولا تُجيدُ التعبيرَ عن ألمِها ووجعِها، واللهُ وضعَ الرحمةَ في قلوبِنا، وقد وَسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ، وهو أرحمُ الراحمين.
تأثَّر الصيدليُّ بكلماتِها، ورفضَ رفضًا قاطعًا أنْ يأخذَ أيَّ نقودٍ منها، وتمنَّى لها يومًا طيِّبًا وحظًّا جيِّدًا.
شكرته بابتسامةٍ ممتنَّةٍ، وهي تغادرُ إلى حيثُ وجدتْ مكانًا آمنًا وضعتْ فيه (الهِرَّةَ)، التي استسلمتْ للنُّعاسِ بعد أنْ هدأتْ آلامُها.
تحرَّكتْ ببطءٍ شديدٍ، مودِّعةً (الهِرَّةَ)، وأخيرًا — وبعد ثوانٍ مرَّتْ عليها كالدهر — وجدتْ نفسها داخلَ الكوفي شوب.
نظرتْ حولَها تحاولُ استكشافَ المكانِ لتختارَ مائدةً مواجهةً لمائدتِه، وبالوقتِ نفسه تكونُ قريبةً.
شعرتْ بارتياحٍ نسبيٍّ لهدوءِ المكانِ، الذي يكادُ يكونُ خاليًا من روَّادِه في مثلِ هذا الوقت، وها هي قد وجدتْ ضالتَها بمائدةٍ تجعلُها مقابلةً له، لتتبيَّنَ ملامحَه بوضوحٍ وبزاويةٍ تسمحُ لها بمراقبتِه.
أتى النادلُ وسألها: كيف أخدمُكِ سيدتي؟
بصوتٍ هادئٍ طلبتْ منه فنجانًا من القهوةِ السادةِ وكوبًا من الماء.
ما زال توتُّرُها لم يُفارقْها، تتملَّكُها رغبةٌ عارمةٌ في مغادرةِ المكانِ، ورغبةٌ أقوى بالبقاءِ لرؤيتِه ومعرفةِ ما سيحدثُ.
مرَّتِ الثواني والدقائقُ ثقيلةً، ولا شيء يتغيَّر.
حتى الآن هو لم يَظهر.
حدثتْ نفسَها قائلةً: ربَّما يتحدَّثُ بهاتفِه، أو ذهبَ لأيِّ مكانٍ وسيعود.
قطعَ حبلَ أفكارِها صوتُ النادلِ وهو يسألُها إن كانتْ تريدُ شيئًا آخر أم لا، فشكرته بابتسامةٍ خفيفةٍ.
انصرفَ النادلُ ليتركَها وحيدةً مع قهوتِها وحيرتِها وتساؤلاتِها.
مرَّتِ الدقائقُ ثقيلةً جدًّا، رتيبةً ومملَّةً.
أنهتْ قهوتَها وهي تتظاهرُ بتصفُّحِ الكتابِ الذي أحضرتْه معها، ولكن في الحقيقة كانت تراقبُ مدخلَ الكوفي شوب مترقِّبةً دخولَه في أيِّ لحظةٍ.
لكنْ لا شيء يتغيَّر، ولا جديدَ يحدثُ، فلا هو حضرَ، ولا حتى لمحتْ طيفَه.
يا الله، رفقًا...
هل كان كلُّ هذا وَهمًا وتخيُّلاتٍ لا أساسَ لها من الصحَّة؟
هل اختلقتُ كلَّ هذا على مدارِ الأسابيعِ الماضية؟
هل كنتُ باختلاقِ هذا أهربُ من الواقع؟
أم ربَّما أكونُ قد جُنِنْتُ حقًّا؟
أو هل تكونُ أحلامَ يقظةٍ كما تقولُ صديقتي (فرح)؟
سرعانَ ما انتفضتْ واستعادتْ ثقتَها بنفسِها عندما لمحتْ أشياءَه القابعةَ على المائدةِ، وكأنَّها تخبرُها أنَّ ما تعيشُه حقيقةٌ، وليس محضَ خيالٍ أو وَهْمٍ...
ولكنْ يظلُّ يُلِحُّ عليها ذلك التساؤل:
ترى أين هو؟
لماذا ليس موجودًا ككلِّ يومٍ؟
مرَّتْ ساعتان وهو لم يَظهر!
وإنْ كان قد غادر، فلماذا تركَ أشياءَه؟
للمرَّةِ الثانيةِ، يقطعُ حبلَ أفكارِها النادلُ بابتسامةٍ خجولةٍ، ليُخبرَها أنَّ موعدَ تغييرِ الشِّفتِ قد حان — أيْ ورديَّةِ العمل — وأنَّه عليه تسليمُ الفواتيرِ الخاصَّةِ بالحساب.
اعتذرتْ (حُلْم) وهي تنهضُ مبتسمةً لتحاسبه.
شعورٌ بالخيبةِ والخذلانِ يستحوذُ عليها، فها هي ستعودُ أدراجَها كما أتتْ، ولن تستطيعَ إثباتَ أيِّ شيءٍ لـ(فرح).
تردَّدتْ كثيرًا قبل أنْ تتوجَّهَ بالحديثِ إلى النادلِ وهي تسأله:
عفوًا، هل لي بسؤالٍ من فضلك؟
أجابَها بفضولٍ: تفضَّلي سيِّدتي، سلي ما شئتِ.
قالتْ وهي تُشيرُ باتجاهِ المائدةِ:
على مدارِ الأسابيعِ الماضيةِ، كان يجلسُ هنا رجلٌ على هذه المائدةِ، وهذه هي أشياؤه، وأتساءلُ: لِمَ هو غيرُ موجودٍ برغمِ وجودِ أشيائِه هنا؟
وما إنْ أنهتْ تساؤلَها حتى وجدتِ النادلَ وقد ظهرَ عليه الاهتمامُ والتأثُّرُ في الوقتِ نفسه، قائلًا — بصوتٍ مخنوقٍ —:
نعم، سيِّدتي، هذا حقيقيٌّ... أنتِ تقصدين الأستاذَ (أحمد مجدي)، الكاتبَ والرِّوائيَّ الشهير...
يتبع...
آمال محمد صالح احمد
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. عبد الوهاب المتولي بدر
نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري
رهام يوسف معلا
هند حمدي عبد الكريم السيد
يوستينا الفي قلادة برسوم
ياسمين أحمد محمد فتحي رحمي
فيرا زولوتاريفا
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
ياسر محمود سلمي
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 

































