كتاب قاض من مصر للمستشار الكاتب: بهاء المري
----
"كنت قد عمدت إلى عدم إبداء رغبتي لها خشية أن تكون ابنة خالتي لا تروق لها، وحتى لا أضعها في صراع بين رغبتي هذه وبين رغبتها في غيرها، وفي ذات الوقت، لو كانت قد اختارت لي غيرها لتزوجتها إرضاءً لها، ولكن الله سلّم"
كيف كان حال القلب حين راوده الصمت عن اكتمال نصابه من الكتمان والهوى؟!
وكيف تنصل البر من كل نداءات الوصل التي تهيأت أمامه مجاهرة: "هيت لك" حين أرهقته أمه بشتى السبل لتنتزع من قلبه اعترافًا بما يكنه في طويته، فأرهقها هو بإسراره الضافي، وإصراره الطاغي، وإيثاره لراحتها على سكينة قلبه ورغبة نفسه، فأتاه الجبر هامسًا:
"الآن حصحص اللطف؛ فانهض وأقم الحياة؛ لعلك ترضى".
فكأني أشعر أن الله حين أنطق قلب أمه باسمها قد تبسم الصمت ضاحكًا من فعلها وردد: "الله سلَّم".
وهنا أتذكر مقولة د. مصطفى محمود:
"نقاوم ما نحب.. ونتحمل ما نكره"
فنهر المحبة يركض برذاذه داخل قلب الكاتب ليمنحه إكسير الحياة، وأيضًا رغبة أمه في سعادته وراحته، لكنه لا يبحث إلا عن رضاها، رضا محبة، وقبول، وإقرار، وقرار وليس اضطرارًا.
ولكني أتساءل:
ماذا عنه هو لو أتى القدر على غير هواه؟ هل كان سيحضن رغبة أمه عن رضا وليس اضطرارًا؟
لكن الموقف بجلاله وعظمته يغلب عليه شعور الإحسان والفضل والبر المتمثل في إيثاره راحة أمه ورضاها على مراده ورضاه، وأنفة القلب السويّ حين تأخذه العزة بفطرته وأصله، فيجاهد ويقوّي عزمه، ويشد أزر روحه حتى يستوي على سُوقه ويطلب المدد من الله الذي يعينه
فينهض، ولا تغره الدنيا فتستعبده، أو تستدرجه الأهواء فتذله، بل يحيا بإرادة صامدة، ويصبح الهوى في قبضته مملوكًا لا مالكًا.
وحين سأل أمه: وما الذي يعجبك فيها؟
فقالت:
هادية، قليلة الكلام. "سُهُنَّة"، لكن طيبة.
(سُهُنَّة)
من خلال قراءتي لقصة "صديقتي وزوجتي" التي سردها الكاتب، ومرور تلك الكلمة بذاكرتي حين قالتها أمه، يمكنني أن أقول:
إن (سُهُنَّة)
هي امرأة استطاعت أن تكون "هي"، بفطرتها التي فطرها الله عليها، حين أمسكت بسر قوتها الكامنة في غاية ضعفها، فتمكنت من استخلاص ضعفها العظيم وتحريره من كيدها العظيم؛ ليزدان عرش عزتها بضعفها واعوجاجها الذي فيه كمالها، واكتمال من تنتمي إليه.
فحين تصافحها العيون، ترى البراءة تسكن ملامحها، والهدوء يجري في مقلتيها، وكل معانيها مطعَّمة بالصمت؛ فتحسبها عن الوجود ونواميسه ساهية، فإذا اشتبكت مع عقلها وحسها، عدت من رحلتك مع ظنونك مفتونًا بوعيها الشديد، ممسوسًا بحسها الطاغي، فتتخلى الحيرة عن ملامحها وتغزوك، والذهول عن معاركه ويجتاحك، فلا يصل اللسان عند أهل مصر إلى لفظ ينعتها به في هذه اللحظة إلا تلك الكلمة: (سُهُنَّة).
اللغة..
فصحى، رصينة، هاربة من قيد الكظم، فكلما هزّ الكاتب جدران الصمت الشاهقة التي بناها داخل قلبه، اسَّاقط البوح درًا بهيًّا على نبض الورق.
السرد..
رائق، ورائع، ومحلّى بالتفاصيل الدقيقة، ومُنكّه بأريج المرح وروح الفكاهة تارة، والحزم والوعي والنصائح البناءة تارة أخرى.
في هذه الفصول الخمسة سلّط الكاتب الضوء على قضية من أخطر القضايا وأهمها، وهي قضية فهم الشباب، والإنصات إلى تفكيرهم، ومصادقة عقولهم، وإزالة الحواجز التي علقت بقلوبهم، واستعادة أنفسهم من براثن التِيه، وإزالة الغشاوة عن بصائرهم؛ فكل الذين غرقوا في غيابات الجُب لم يجدوا قلبًا مصغيًا أو عقلًا رشيدًا.
فحين يكون الهدف نبيلًا، فيستحيل على الإنسان أن ينفق عمره سُدًى وعلمه هباءً تذروه رياح اللهث وراء المال، أو أن يضع خلاصة فكره في مزاد، ليقدمه بضاعة مزجاة بثمنٍ بخس، لا تسمن ولا تغني من نفع.
فهنا الكاتب حين رجاه أستاذ القانون المدني بالكلية أن يُدَرِّس التدريبات العملية للطلبة، حمل على عاتقه أمانة المسؤولية، وقضايا الشباب في تلك المرحلة الخطرة دون الالتفات إلى المقابل الرمزي، وأنفق في سبيل ذلك خمسة عشر عامًا من عمره يبني قلوب الشباب وعقولهم، ويفتح لهم آفاق الطموح وأبواب الأمل، ويعيد لهم الثقة في مجتمعهم وبلدهم، فكان يقول:
"إن كلمة تخرج من فم أستاذ لهم، كفيلة بتغيير مسار كثير منهم".