قضية توريث زوجة المريض مرض الموت ،فيما يعرف فقهيا ب" طلاق الفار"
أقول : هذه القضية من القضايا التي ناقشها الفقهاء الأقدمون ، وكان موقفهم منها ينم عن فكر إنساني راق ونظر سديد ، مما يؤكد على أن بالتراث الفقهي الإسلامي الكثير من المعالجات ذات النظرة المنصفة للمرأة وحقوقها ، ولكن عمليات الانتقاء ذات التوجه التحيزي التمييزي ، التي حرص أصحابها على استدعاء جانب من المرويات والأقوال التي ترضيهم وتعكس ثقافتهم وكفى ، حجبت عنا الكثير من هذه الأضواء الهادية ، خاصة وأن النص بطبيعته حمال أوجه من الفهم ، واللغة التي هي وعاؤه والمصدر الرئيس لفهمه ، حمالة أوجه كذلك.
يعني من اليسير حمل النص حتى وإن كان مقدسا على فهم معين ، وباستناد الى اللغة ، وهي في ذلك في غاية الطواعية.
والحقيقة أن هذه القضية ناقشها الفقهاء في محاور ثلاثة :
الأول : تحديد من هو المريض مرض الموت ؟
الثاني : هل يقع طلاق مريض مرض الموت أو لا ؟
الثالث : حكم توريث الزوجة من زوجها الذي طلقها في مرض موته .
والفقهاء في أكثرهم على أن مرض الموت ، إنما هو المرض الذي يعجز معه المريض عن أداء مصالحه ، ثم يفضي به إلى الموت غالبا ، بما يعني أن المرض قد استمر مع المريض ولم يفارقه ،حتى مات به .
قالوا : : وليس بالضرورة أن يحكم بكون المرض مرض موت ، أن يكون المريض طريح الفراش طيلة مرضه ، لأنه يوجد من الناس من يلزم الفراش لأدنى مرض يصيبه ، وقد يعجز إنسان ما عن أداء مهماته لكسل أو لأسباب نفسية توهمية ، أو قد يعرض عن ذلك ترفها .
قالوا : والعرف حاكم في كل ذلك .
والخلاصة هي أنه ليس كل إنسان مقعدا في الفراش يعد مريض مريض موت ، لأن مرض الموت يعني المرض المميت بغلبة الظن ، أو بغلبة الحال ، يعني : يفضي إلى الموت غالبا .
وفي هذا العصرلا ينبغي أن يحكم بهذا الحكم بمعزل عن أهل الا ختصاص من الأطباء ، حتى لايترك الأمر فرصة للتقول والادعاء .
فمريض السرطان مثلا لايصدق عليه وصف المريض مرض الموت ، إن كان المرض في بدايته ، وقد اطمأن الأطباء الى استئصال الورم استأصالا تاما ، وبما يقترب من الشفاء بغلبة الظن .
- وأما بالنسبة للمحور الثاني : هل يقع طلاق المريض مرض الموت ؟
فالجواب : نعم يقع طلاقه مادام مدركا ولم يغب عن الوعي ، لكونه في هذه الحالة إنسانا مكلفا مسؤولا ، مهما اشتدت به درجة المرض .
-وبالنسبة للمحور الثالث : حكم ميراث مطلقة مريض مرض الموت منه؟
أقول : هذه المسألة هي بيت القصيد من إثارة هذه القضية ، ومن ثم نجد الخلاف قد جاء فيها مطولا ومفصلا .
فهناك اتفاق بين الفقهاء جميعا على أن زوجة المريض مرض الموت ترثه إذا طلقها طلقة رجعية ، ثم مات عنها وهي في العدة ، لكونها لاتزال زوجة في هذه الحالة ، و لم تنفصم عنها عرى الزوجية بعد .
قالوا : ولما كان من حق الزوج مراجعتها دون عقد ومهر جديدين باعتبارها زوجه له ، كان الميراث من حقها .
والخلاف بينهم فيما إذا طلقها الزوج طلاقا بائنا ، ثم مات عنها وهي لاتزال في عدتها .
والشافعي في الجديد على أنها لاميراث لها قولا واحدا لبينونتها منه ، ومن ثم فهي لاترثه .
-أما جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة فيتفقون على وجوب توريثها منه ، قالوا : سدا للذريعة ومعاملة له بنقيض مقصوده ، إن مات وهي في العدة، فإن مات بعد انقضائها لاترث منه .
وللحنفية خمسة شروط كي ترث في هذه الحالة :
أن يكون الطلاق بائنا، وفي مرض الموت وبغير رضاها ، ومات وهي في العدة، وأن تكون أهلا للإرث من وقت إبانتها إلى وقت موته .
قالوا : إنما قلنا بتوريثها منه معاملة له بنقيض قصده ، احتياطا لحقها المالي ، وكونه فارا ، وقد طلقها نكاية ، ومات وهي في العدة ، فيرد عليه قصده ، لأن عدم رضاها معناه استشعارها التعمد وقصد الفرار من توريثها والإضرار بها.
- بينما روي عن الإمام أحمد وابن أبي ليلى والإمامية : توريث زوجة المريض مرض الموت ، سواء أمات عنها وهي في العدة أم مات بعدها ، بشرط أن لاتتزوج بغيره ، وهناك قول منسوب للإمام مالك والليث يقضي بتوريثها منه وإن تزوجت بغيره ، توسعا في إعمال قاعدة سد الذرائع .
يعني تغليبا للظن بكون الزوج قد تعمد تطليق زوجه حين استشعر قرب أجله ، نكاية وبقصد حرمانها من الميراث .
وقد أخذ القانون المصري برأي الحنفية السابق ذكره .
وأتمنى في أقرب تعديل تشريعي أن يعمل برأي المالكية ، خاصة إذا تيقن القاضي أو غلب على ظنه أن التطليق قد توفر فيه قصد النكاية بالزوجة ، والفرار من توريثها ، ومن الممكن في هذه الحالة أن يأخذ برأي المخالطين للزوجين ، لاسيما إذا كانت هذه الزوجة قد عاشرت زوجها فترة طويلة يغلب عليها اتسامها بحسن العشرة ، ثم فاجأها بهذا التصرف الذي ليس من العدل والإنصاف في شيء، بل وبينه وبين قاعدة المودة والرحمة -التي بنيت عليها الحياة الزوجية - بعد المشرقين.
حقيقة، فكر إنساني راق ، وفهم مبكر لفكرة الباعث على التصرفات ، التي تشكل الآن قاعدة قانونية مهمة في الفقه القانوني الحديث ، الذي يطيب للأكثرين منا أن ينسبه إلى الغربيين ، وهو في الحقيقة ماهو إلا بضاعتنا التي ردت إلينا .