هكذا قال الأستاذ الإمام محمد عبده :
"النبي صلى الله عليه وسلم لم يسحر ، ولايجوز الاعتقاد بجريان السحر عليه صلى الله عليه وسلم "
ملخص وجهة الشيخ رحمه الله في هذه القضية أن الحديث الذي هو عمدة الاستدلال فيها حديث آحاد، والحديث الآحادي ظني النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما القرآن الكريم فهو قطعي النسبة إلى الله تعالى. وحين يعارض الظني القطعي يسقط الاحتجاج بالظني وإن صح برواية البخاري له أو غيره ، لاسيما إذا كان في باب العقائد ، فعصمة النبي صلى الله عليه وسلم من تسلط السحر على عقله أو نفسه عقيدة لايجوز أن يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين .
أما عن النص القرآني الذي عارض خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم في رأي الشيخ الإمام ، فهو قوله تعالى حكاية عن المكذبين من مشركي مكة " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا"
فكون القرآن الكريم ينسب القول بسحر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الظالمين ، فهذا يعني أنه قول منكر ولايجوز اتصافه صلى الله عليه وسلم به ولاجريانه عليه كنبي يوحى إليه ، وقد وصفه الظالمون بهذا الوصف قدحا في عصمته ونبوته ، إذ لايستساغ عقلا أن يؤتمن على خبر السماء إنسان غير معصوم من جريان السحر عليه وعبث السحرة بنفسه وعقله ، وهو ماأنكره القرآن الكريم ووصف قائله بالإفك والظلم، لأن القصد من ذلك ظاهر ، فقد كان المشركون يقولون بأن الشيطان كان يلابسه صلى الله عليه وسلم ، وملابسة الشيطان تعرف عندهم بالسحر ، الذي يعني أنه قد خالط عقله وإدراكه صلى الله عليه وسلم حسب افترائهم .
كيف يستقيم إذن - في رأي الشيخ محمد عبده - بعد هذا التنديد القرآني بمقولة المكذبين من مشركي مكة أن نصدق رواية تقول بأنه صلى الله عليه وسلم سحر من قبل يهودي ، حتى إنه كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولايأتيه - كما تقول الرواية التي صححت برواية الشيخين البخاري مسلم رحمهما الله لها- .
كما يستدل الشيخ محمد عبده بدليل العقل ، لأنه إذا خولط النبي في عقله كان من الجائز عليه أن يظن أنه بلغ شيئا ولم يبلغه، أو يظن أن وحيا نزل عليه ولم ينزل ، وهذا محال عليه صلى الله عليه وسلم لعصمته عن ذلك .
أما الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، فقد وقف من هذا الحديث موقف الرافض له تأثرا برأي الأستاذ الإمام ، وله في ذلك مقولة شهيرة ، قال : لأن أخطيء البخاري خير من أقول إن صاحب الرسالة قد سحر من قبل يهودي حتى لعب السحر برأسه وروحه على هذا النحو الذي وصفته الرواية .
والحقيقة أن هذا الموقف تجاه الروايات الآحادية ، تجلى في مواضع عديدة من تفسير الأستاذ الإمام ، فحين يعارض الحديث الأحادي نصا قرآنيا في مسألة من المسائل المهمات كالعقائد والحدود ونحوهما ، لاترى محاولة من قبل الأستاذ الإمام للجمع بينهما كما هو متبع في مناهج الأثريين ، وإنما يحسم النص القرآني القول فيها حسما ، وهو ماتبناه بوضوح الشيخ محمد الغزالي في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ، وكان من أمره ماكان .