هناك مالا يحصى من الكتب التي صنفت لتبين حقيقة الزهد ، ولكن القليل منها فقط هو الذي تحدث عن هذه الحقيقة حديثا معقولا أوقابلا للتطبيق في دنيا الناس،
فبعضها وهو الأكثر غالى وأسرف في بيان حقيقة الزهد حتى أمات على الناس حياتهم ، وصور لعمومهم أن النجاة في الآخرة لن تكون إلا على أنقاض هذه الحياة الدنيا ، يعني أن يعيش الإنسان على هامش هذه الحياة ، وليس داخلها يمنحها وتمنحه ، الأمر الذي أفرز توجها آخر اتجه إلى نقض قضية الزهد هذه من الأساس ، باعتبارها -حسب وجهتهم- من المدخلات غير الإسلامية التي انحدرت إلى المسلمين عبر التواصل مع نحل أخرى ، كالمسيحية والبوذية وغيرهما .
والحقيقة أن القرآن الكريم لم يتركنا حيارى إزاء هذه الوجهات المتباينة ، ولكنه اختصر حقيقة الزهد المشروع أو المحمود كسلوك إنساني مترفع على مغريات الحياة الدنيا ، وفي الوقت نفسه هو فاعل فيها لايعيش خارجها ولا على هامشها ، اختصر هذه الحقيقة في قوله تعالى " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا "
هذه هي باختصار حقيقة الزهد المشروع ،
ليس زهدا في الدنيا ولاحرمانا من طيباتها ، وإنما استمتاع بهذه الطيبات مع القيام بحق الله تعالى فيها ، ابتغاء الدار الآخرة ، بحيث لاتذهله دنياه عن آخرته ، ولا عما هو مطالب به شرعا تجاه ربه ونفسه والكون والناس .
وفي جملة واحدة يجسد الأستاذ العقاد في كتابه "التفكير فريضة إسلامية " حقيقة الذهد المشروع ، استخلاصا من منطوق آيات القرآن الكريم التي جاءت تؤسس له كقيمة عليا من قيم هذا الدين ، فقال :
"ليس الزاهد من لايملك شيئا ، بل الزاهد هو من لايملكه شيء ، فهو مالك للدنيا غير مملوك لها بحال "
والحقيقة أن ماقاله الأستاذ العقاد وإن جاء في عبارة موجزة ، إلا أنه اختصر مجلدات أكثرت من التوصيف والحكي ، ولكنها لم تصل إلى هذا العمق الفلسفي المتفق وقيم ديننا الحنيف .
نعم ، هذا هو الزهد ، وغيره ادعاء بلا ريب ،
والزهد سلوك لايتأتى إلا بعد فقه عميق بحقيقة هذا الدين ، وحقيقة المهمة التي لأجلها وجد الإنسان على هذه الأرض ، ثم حقيقة المصير الذي سوف إليه يصير .
وقبل كل ذلك هو توفيق من الله تعالى وعلو نفس وهمة لاتكون إلا للصفوة من الخلق ، وماأسهل الادعاء والزيف ، ولكن ماأسهل أن ندرك أنه زيف .