بداية أقول : لقد تعرضت لهذه القضية بالدراسة الفقهية في أحد أبحاثي للترقية لدرجة أستاذ ويحمل عنوان " نظرية الشاطبي في الكلية والجزئية - بين أصل النظرية والتحريف المعاصر لها وآثاره - ميراث المرأة أنموذجا - وهو منشور ومتداول .
وفي هذا البحث المذكور تعرضت بالنقد العلمي للرأي القائل بالتسوية ، لأسباب عديدة فصلت فيها في بحثي ، ولأنني مقتنعة تماما بالمنظومة التشريعية الكاملة - وأكرر : مقتنعة بالمنظومة التشريعية ككل - التي أرستها الشريعة الإسلامية في ميراث الأنثى ، لما لها من اعتبارات عادلة شاملة ، فهناك حالات ورثت فيها المرأة كما الرجل تماما ، وهناك حالات ورثت هي ولم يرث هو ، وحالات أخرى زاد فيها نصيبها عن الرجل .
ولم ترث المرأة على النصف من الرجل سوى في أربع حالات لها أسبابها العادلة والمعقولة،لأنها في مقابل إعفائها من تبعات يتحملها عنها إما والدها أو أخوها أو زوجها أو أحد عصبتها الذكور .
ولاأريد أن أخوض هنا في تفصيلات ليست هذه الصفحة محلها ، فمحلها هو البحث العلمي ، أو مجالس التعلم والفقه لاغير .
والخلاصة هي أن البحث قد انتهى بي إلى عدم ترجيح القول بالمساواة في الحالة التي نحن بصددها .
ولكني أود أن أتوقف هنا وفي خضم هذه الضجة المثارة أمام بعض الظواهر التي لاأراها مقبولة بحال ، أبرزها :
أولا - هذا العنف الذي وصل بالفعل إلى حد الإرهاب الفكري تجاه كل من يحاول أن يجتهد وإن كان متخصصا ، فالأصل هو الإنكار على المخطيء ومحاورته ولو أخطأ خطأ بينا ، أما لغة السباب هذه فليست لغة علماء ، وإنما لغة سوقة وغوغاء ولايصح أن توصف بغير ذلك . .
ثانيا - القول بأن سعادة الأستاذ الدكتور سعد هلالي القائل بالتسوية ، ليس مجتهدا ولايملك أدوات الاجتهاد والفقه ، وليس فقيها ولايصلح لذلك ، ويتبع الشواذ الخ .. ببساطة أقول لكم : أنتم هكذا لاتدينون الرجل ، ولكنكم تدينون مؤسستكم العلمية الأولى في مصر والعالم الاسلامي.
ألا تنتبهون لما تقولون ؟ فنحن حين نناقش طالب ماجستير لايزال يحبو في ميدان العلم الفسيح نبادره بهذا السؤال : أين الجديد في رسالتك ؟ وأين رأيك واجتهادك أنت في كذا وكذا ؟ ، والرسالة حين تخلو من بروز شخصية الباحث العلمية ، نقول له أنت هكذا مجرد ناقل أو لص يتخفى في زي باحث ، ورسالتك هكذا لاتصلح لنيل درجة علمية، ومافعلته يغض من قدرها ويسوغ رفضها..الخ
والآن فضيلةً الأستاذ الدكتور سعد الذي اجتهد هذا الاجتهاد يحمل هذا اللقب العلمي من مؤسستكم العريقة منذ أكثر من عشرين عاما تقريبا " ، ولايزال على قيد هذه المؤسسة ويتحدث باسمها ويدرس ويناقش ويحاضر ببن أروقتها ؟
فهل منحتم سعادته هذا اللقب في غفلة من الزمان ؟ كلا قطعا ، فللرجل إنتاجه العلمي الغزير والعميق المجاز أكثره من قبلكم …
إنكم بذلك تمنحون المتربصين بمؤسستكم هذه فرصتهم الذهبيه ، وهم الذين يعملون بدأب على جرها إلى واديهم لتكون مفرخا شرعيا لفكرهم الذي تسمونه أنتم بالتطرف ، ثم في احتلال كرسي المشيخة نفسه ، وهذا مايعملون له بدأب وأنتم عنه غافلون ، متخذين في ذلك شعار " بطيء لكن أكيد المفعول "
استيقظوا أيها السادة ، وكان الأولى بكم أن تلملموا خلافاتكم وتناقشوها في مجالسكم العلمية المغلقة ، وبكل تجرد وإخلاص ، باحثين عما ينفع الناس ويحقق صالحهم ويراعي متغيرات الحياة وأزماتها الطاحنه ، وكذا مايتلاءم مع وضعية المرأة التي اختلفت كثيرا عن ذي قبل ، حين تطرحون أية قضية من قضاياها الشائكة .
ثالثا - المسارعة إلى الحكم بالتكفير والتضليل ، ثم التخوين والعمالة وخلاف ذلك ، وقد أمرنا بعدم التنقيب عما في الضمائر وماهو مستتر بين العبد وربه، وقد ورد عن الإمام مالك رضي الله عنه مايعبر عن شريعتنا السمحة في مثل هذه المواقف أصدق تعبير ، حين قال " إذا رأيتم الرجل يقول مايحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها ويحتمل الإيمان من وجه واحد ، بحمل قوله على الإيمان "
وقبل الإمام مالك رفض الإمام علي كرم الله وجهه - بعد أن طعن بطعنة غادرة -أن يحكم على من طعنوه من الخارجين عليه بالكفر ، ولما سئل ، فمن هؤلاء إذن. ، قال " إخواننا بغوا علينا" وقال " هم من الكفر فروا "
رابعا - القول في معرض الحمية و هذا التشنج الذي كثيرا مايلبس الحق بالباطل ، بأنه لااجتهاد في قضايا الميراث و بهذا الإطلاق : قول خاطيء فقهيا ، فلقد اجتهد الصحابة رضوان الله عليهم في بعض مسائله ، حين وجدوا أنفسهم أمام مشكلات تقتضي هذا الاجتهاد، ومنهم سيدنا عمر رضي الله عنه في أكثر من واقعة ، بل وأخذ اجتهاده هذا صفة الحكم القضائي وقتها ، مثل قضائه رضي الله عنه بالتشريك بين الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم في المسألة الحجرية المعروفة ، بعد اعتراض الإخوة الأشقاء على قضائه الأول بعدم توريثهم .
فالذي لايعرفه كثير من المتحدثين من غير الدارسين لعلم أصول الفقه : أن الحكم الشرعي الناتج عن النص القطعي ثابت في أصله لايتغير ، ولكن الاجتهاد التنزيلي لهذا الحكم على واقع المكلفين يرتبط بخطاب الوضع من أسباب وشروط وموانع ، مما يجعل الحكم التنزيلي هذا متغيرا بتغير حال المكلف وأوضاعه الحياتية والمعيشية والظروف الزمانية والمكانية والبيئية بل والعالمية التي تحيط به ، ومن هنا كان إيقاف عمر رضي الله عنه حد السرقة عام المجاعة ، لعدم توفر أسباب تنزيل الحكم على السراق وقتها ، ومراعاة للظرف الطاريء هذا ، ونظير ذلك كثير في اجتهاداته رضي الله عنه ( وسوف أقوم بتجلية هذه المسألة الخاصة بخطاب الوضع في منشور تال بإذن الله )
خامسا : أتساءل سؤالا بريئا -وأؤكد على كلمة بريئا هذه - لماذا تقوم الدنيا ولاتقعد وتتوالي بيانات الشجب والاستنكار والإدانة كلما اقترب فقيه أو مفكر من قضية تتصل بالمرأة مما يظن فيه إنصافها ولو توهما ؟
و لانرى هذه الحملات الشرسة ازاء ابتلاع حقها الكامل في الميراث ، أو حرمانها النفقه وتلطيمها في المحاكم والتلاعب بطلاقها ورجعتها ، أليست هذه هي الأخرى فرائض حقوقية منصوصا عليها بنصوص قطعية ثابتة ، كهذه القضية تماما ؟
فقط أود شيئا من الاستواء في مواقفنا ، وإذا كنتم (أو بعضكم ) يامن تشنون هذه الحملات الغاضبة أو تشيرونها على صفحاتكم ببراءة ، أو لكونكم مستفيدين أو غير قابلين لمبدأ التسوية - وأنا كذلك لاأقبله ولكن فقهيا كما قلت في البدابة - فلماذا أوعزتم إلى الآباء - ممن لم يرزقوا بذكور وتحت غطاء شرعي من فتاواكم الرسمية- بالتحايل على ماتقولون عنه قطعيا لايمس ، ولكن تحت مسمى الهبة ، فشرعنتم لهم كتابة كل مايملكون لبناتهم حتى يحرموا أعمامهم من الإرث معهن ؟
فإذا ماووجهتم قلتم هذا القول المأثور عنكم وحدكم في هذه الواقعة تحديدا : (للأب أن يفعل مايشاء حال حياته على سبيل الهبة أو التبرع )
وأقولها وبكل وضوح: هذه كلمة حق أريد بها باطل.
لكونكم تعلمون أن الأب لايفعل ذلك هبة في الأعم والأغلب ، وإنما تقسيما لتركته بنفسه ، رغبة في أن تؤول كلها إلى بناته فقط .
يامشايخنا الكرام : المؤدي واحد ، وأكاد أقسم على أن الهدف المستكن في الأعماق هو حرمان الإخوة أو بنيهم ، حتى وإن سول والد الإناث لنفسه غير ذلك ، وقد صرح لي بعض الآباء والأمهات بأنهم غير مستريحين لما فعلوه ، وفي نفوسهم شيء من هذه الفتوى ، ولكنها صادفت هواهم ، فجعلوها في رقبة عالم وخرجوا هم سالمين -حسب ظنهم -
ولكن يقطع عليهم هذا الرجاء قوله صلى الله عليه وسلم " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " فالحديث لايعفيهم من المسؤولية عن تصرفاتهم في هذه الحالة وأمثالها . .
ولذا فإنني أعلن دائما أنني لست مطمئنة لهذه الفتوى ولاأفتي بها ، يعني لاأفتي بأن تؤول التركةًكلها للبنت أو للبنات على سبيل الهبة مطلقا.
وليتكم يامشايخنا الأجلاء تعلنوها صراحة بأنكم لاتقولون بالتعصيب كالشيعة الإمامية ، وهو ماكان معمولا به في الأزهر الشريف منذ تشأته وحتى تحوله تدريجيا إلى المذهب السني ، بدءا من حكم صلاح الدين الأيوبي عام ٥٦٧ هجرية وحتى يومنا هذا ؟
على كل ، هذه بضاعتكم ردت إليكم ، فلماذا هذه التوربة؟ وإلى متى سيظل العداء الموروث للشيعة ذي الصبغة السياسية في الأصل محركا للمواقف؟
ثم بأي منطق أقررتم وتقرون الوصية للوارث ؟
أفيدوني ، فقد احترت حقيقة إزاء هذه المواقف التي تنبيء عن ازدواجية المعايير لدى بعض المتصدرين -وأكرر بعض المتصدرين وليس جميعهم - ، مما يجعلني أحكم بأن مثل هذه الفتاوى منحازة ، أو غير بريئة من المشاعر الذكورية المستكنة بين الضلوع ، ولذا لم أتحرك عقليا ولاعاطفيا إزاء بيانات الشجب والاستنكار هذه ، لظني الغالب بأن هناك ماهو مستتر وغير معلن …
وأؤكد على أنني لاأسم كل من استنكر بهذه السمة ، فهناك من إذا استثير ثار ، حمية وعاطفة دينية ليس إلا ، وهناك من هذه هي قناعته بالفعل ، فيحترم هو وقناعته .
لذا قررت عدم إلقاء سمعي - ومنذ زمن ليس بالقصير - إلى مايصدر من بيانات مع أو ضد أيا كان مصدرها إزاء مايطرح من القضايا ، وقد عودت نفسي أن لاأقبل حكما أو اجتهادا دون إعادة البحث والنظر فيه بنفسي ، ومن الجائز جدا أن أعيد النظر فيما ادعي فيه الإجماع ، ولاإجماع حقيقي فيه ، وقد فعلت ذلك بالفعل ، لاسيما في كتابي " قضية التوارث بين المسلمين وغير المسلمين في مناقشه هادئة وطرح فقهي جديد " وهو كذلك مطبوع ومنشور.
ومن باب أولى أن يكون هذا هو مسلكي إزاء كثير من موروثاتنا الفقهية ، مما هو خارج عن دائرة الثوابت وفيما يقبل النقد والمراجعة والرأي والرأي الآخر ، بل وأشجع تلاميذي من الباحثين على سلوك هذا المنهج، ولكن بتوجه حر ، وحيدة تامة ، ومنهجية صارمة لاتسمح بتلبيس الحق بالباطل أو كتمان الحق -يعني مانراه حقا حسب اجتهادنا - أو تسميته بغير اسمه ، وهو مانعاه القرآن الكريم قبل ذلك على غيرنا من السابقين ، وحذرنا منه في قوله تعالىً"
" ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون "
وقوله " وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس مايشترون "
نسأل الله تعالى الإخلاص في القول والعمل وأن يعفو عن زلل الفكر والقلم . آمين يارب العالمين .