بر الأبوين قيمة أعلى الله تعالى قدرها وهي سر السعادة والهناء في الدنيا قبل الآخرة. وعقوق الوالدين كبيرة من الكبائر وسبب لاستحقاق المذلة في الدنيا و عذاب الله في الآخرة ، هذه مسلمات في ديننا لانقاش حولها ….
ولكن وكما أن هناك برا بالأبوين ، هناك بر كذلك بالأبناء ، بل إن بر الأبناء أسبق من حيث الوجود ، وكما أن هناك عقوقا للأبوين هناك عقوق للأبناء وهو كذلك الأسبق وجودا .
وهو مااتضح بغاية الوضوح في قول عمر رضي الله عنه لرجل شكا إليه عقوق ولده ، إذ قال له بعد سماع دفاع الابن عن نفسه " لقد عققت ولدك قبل أن يعقك "
إذن هي نتائج مرتبة على أسباب ومقدمات عقلية منطقية كسائر والتصرفات ،إذلايمكن عقلا أن ننتظر برا من ولد حرمه ، ولاعقوقا من آخر تشرب البر مع لبان أمه .
والحقيقة أن المشكلة تكمن في أن معظمنا كآباء وأمهات تصور تصورا خطيرا نتج عنه تصدع قيمة البر لدى أبنائنا وبناتنا ، وشكوى الجحود التي باتت تؤرق مجتمعاتنا ..
ولكن ماهو هذا التصور ؟
أقول ببساطة تصور أكثرنا أن هؤلاء الأولاد الذين أنجبناهم بمجرد مجيئهم إلى الدنيا قد أصبحوا وقفا على ملكيتنا الخاصة ، فماهم إلا دمى وعرائس كرتونية من حقنا أن نحركها يمنة ويسرة أنى نشاء وكيفما نشاء .
والحقيقة أن استلاب حياة الأبناء منهم قهرا بسيف البر قد وصل إلى درجة مفزعة لدى بعض الأسر ، فأبناؤهم مقهورون قهرا جليا أو خفيا على نوعية الدراسة و المهنة والأصدقاء بل والارتباط بزوج أو زوجة المستقبل ، ومعلوم قطعا أن الإناث لهن النصيب الأوفى من القهر والتسلط لدى هذه الأسر …..
وأنا هنا أحمل الخطاب الديني أحادي
الرؤية والتوجه هذه المسؤولية الجسيمة ، فكثير من الدعاة في مقام البر لايتحدثون إلا عن بر الأبوين فقط ، وبدرجة تخلو من شيء من الفقه ، حتى تحول معها هذا البر إلى سيف مسلط على رقاب الأبناء ، فعليهم حتى يكونوا بارين بآبائهم أن يلزموا حدود الطاعة العمياء الصماء البكماء ، و لامانع في سبيل إسعاد آبائهم وأمهاتهم من أن ينسوا تطلعاتهم وآمالهم حتى يكونوا نسخا مكررة منهم ، كي يستعيد الأبوان معهم فاقد أحلام الطفولة وتطلعات الشباب وكل ماافتقدوه في حياتهم ، وهم في ذلك سعداء بغاية السعادة ، لأن هناك عقيدة مستقرة في نفوس الأبوين بعمق ، أن الله خلق هؤلاء الأبناء لهم وأوقفهم على ملكيتهم الخاصة ليكونوا تحت تصرفهم في الدنيا ، أما نعيم الآخرة فهو كذلك صك بأيديهم يمنحمونه للبار بمنطقهم ويمنعونه العاق بمنطقهم كذلك .
قلت مرارا وتكرارا : إن شريعتنا العادلة وزنت الحقوق بين الناس -كل الناس - بميزان عادل ، فلايوجد حق مطلق لإنسان ، أي إنسان دون واجب مقرر عليه وبالدرجة نفسها ، ولايملك أحد وأد كرامة أي إنسان والسطو على بنيانه الذي هو خلق الله ومنحته لعبده ملكا خالصا له لايشاركه فيه أحد ، لاسيما حين يبلغ ويصير مكلفا ومسؤولا .
نعم وصى الله تعالى الأبناء بالأبوين وأعظم حقهما وأوجب شكرهما بعد شكره ، وعقوقهما يحتل الدرجة الثانية بعد الشرك بالله في سلم الكبائر كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن القرآن الكريم في الوقت نفسه نهى في ثلاث آيات صريحات عن قتل الأبناء ، والقتل في شريعتنا لايكون بالآلة القاتلة التى تزهق الروح فقط ،فالقتل بإزهاق إنسانية الإنسان ووأد أحلامه وطموحاته وكبت مشاعره لايقل بشاعة ، وفيه القصاص العادل يوم القيامة ، وإن لم توضع له عقوبة قصاصية في الدنيا .
وكلنا يعلم أن تحطيم الرق والعبودية بشتى صورهما وأشكالهما ، هدف ماثل لشريعتنا وهي بالفعل أسبق الشرائع السماوية إلى تحرير الإنسان من استذلال إنسانيته وعبوديته لغيره أيا كان موقعه ، وجعلت هذا الصنيع - تحرير الإنسان من ذل العبودية - من أعلى أبواب القرب المنجية من النار ،كما نص على ذلك قوله تعالى " فلا اقتحم العقبة وماأدراك ماالعقبة فك رقبة "
فكيف إذن تستبيح شريعتنا هذا الرق الأبوي المقنع بالحب والأبوة؟؟
ولايعني حديثي هنا إلغاء دور الأبوين في التربية والتعهد والتوجيه ، ولكن ماعلاقة كل ذلك بالتسلط والإكراه والاغتيال المعنوي والنفسي للأبناء ؟
لقد نفى القرآن الكريم أن يكون لرسل الله الموحى إليهم شيئ من هذه السلطة " فذكر إنما انت مذكر لست عليهم بمسيطر " فالإنسان لايصلحه أبدا ولايزكيه أية أساليب قهرية تسلطية حتى فيما يخص علاقته بربه ، فبنص القرآن الكريم " لاإكراه في الدين "
يعني لاإكراه على اعتقاد معين يتصل بالله ولاعلى طاعته تعالى وعبادته ، فمن باب أولى أن لايمارس إنسان إكراها ضد أي إنسان آخر على الإطلاق وتحت أي مسمى كالحرص على مصلحته مثلا .
لأنه باسم المصلحة وتأمين المستقبل تم اغتيال الكثيرين من الأبناء حتى كهلوا وهم لايزالون يحبون في مراحل الطفولة الباكرة .
إن آية نجاحك في تربيتك لابنك أوابنتك أن ترى كلا منهما ناجحا سعيدا يعيش الحياة في جلبابه هو لافي جلبابك أنت ، ويحمل شيئا من ملامحك وخصالك الكريمة ولكن ليس هو أنت .