" فهرس القصة "
الجزء الاول : البداية والرحلة
الجزء الثاني : الرحلة الي تونس
الجزء الثالث : مشروع ضفة تاني
الجزء الرابع : الليلة الاخيرة
الجزء الخامس : صوت البحر
----
الجزء الأول
: البداية والرحلة
في زقاقٍ ضيّقٍ بحيّ شعبي في الإسكندرية، حيث تتعانق رائحة السمك المشوي مع نسيم البحر، وتختلط ضوضاء الباعة بصوت الموج، كانت "ليلى" تنزوي بجوار نافذتها الصغيرة، تمسك فرشاةً وكأنها تمسك بوتر قلبها
لم تكن ليلى فنانة مشهورة، ولم تتعلّم الفن في أكاديمية كبرى. لكنها منذ الطفولة، كانت تجد في الرسم ملاذًا، في كلّ مرة خذلها فيها العالم أو ضاق بها البيت. كانت ترسم على الجدران، على كراسات المدرسة، وحتى على أوراق الجرائد القديمة
كان والدها، صياد بسيط، يبتسم دائمًا حين يراها منغمسة في ألوانها، ويقول لأمها
."البنت دي شايفة الدنيا بطريقة غيرنا"
كبرت ليلى وسط زحام الحياة وضجيج التقاليد، لكن شيئًا في داخلها كان دائمًا يحنّ إلى مساحات مفتوحة، إلى لقاءٍ غير مشروط بين البشر. وكانت ترى في البحر، رغم كونه مألوفًا، رمزًا لهذا اللقاء .
كثيرًا ما جلست أمام الشاطئ في لحظات الغروب، تتأمل خط الأفق وتتساءل
"هو اللي هناك حاسس بإيه دلوقتي؟"
كانت تتخيله شابًا إيطاليًا يعزف على جيتار، أو فتاة تونسية تكتب خواطرها، أو لاجئًا سوريًا يحدّق في الأمواج ويتذكّر ما فُقد .
في إحدى الأمسيات، وبينما كانت تتصفح بريدها الإلكتروني، وقعت عيناها على دعوة بعنوان :
"بحر من الإبداع – ورشة فنية شبابية حول المتوسط."
شعرت بخفقة قلب. كانت الدعوة موجّهة للشباب من الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، يدعونهم لتبادل التجارب من خلال الفن .
: همست لنفسها
""هو ممكن فني يوصل فعلاً؟
لم تخبر أحدًا من أسرتها. أرسلت نموذج المشاركة، وأرفقت معه صورتين من لوحاتها، دون أن تنتظر الكثير
بعد أسابيع قليلة، جاءها الرد :
"نحن سعداء بقبولك في الورشة التي ستُقام بتونس، ونتطلع لرؤية ما سترسمينه"
لحظة قراءة الرسالة كانت كموجة دفء اجتاحت قلبها. لم تكن فقط دعوة للسفر، بل اعتراف ضمني بأن الفن الذي ترسمه من شرفة منزلها الشعبي يمكن أن يعبر الي القارات .
الجزء الثاني
الرحلة إلى تونس
كانت هذه المرة الأولى التي تسافر فيها ليلى خارج مصر. لم يكن لديها جواز سفر من قبل، ولم تجلس في طائرة قط
في الليلة التي سبقت الرحلة، لم تستطع النوم. راودتها كل أنواع الأسئلة
"هفهم لهجتهم ؟ هيحبوا رسمي؟"
ثم تمتمت لنفسها
"بس البحر واحد... يمكن نلاقي لغة مشتركة"
حين وصلت إلى تونس، استقبلها هواء مختلف، فيه شيء من المألوف، لكنه محمّل بأسئلة جديدة. كان مقر الورشة عبارة عن بيت تراثي قديم في المدينة العتيقة، تحوّل إلى مركز فني حديث .
في بهوه الواسع، كانت الجدران مزينة بلوحات من مختلف الدول: من الجزائر، من اليونان، من إسبانيا، من فلسطين
: في اليوم الأول، دارت عيناها على الوجوه. فتيان وفتيات من أماكن متعددة
آدم: شاب سوري يعيش في فرنسا، يرسم وجوه الناس الذين فقدهم .
مريم: فرنسية من أصول مغربية، تهتم بالفن المفاهيمي وتكتب عبارات غامضة على الصور .
لينا: يونانية، تنحت وجوهًا مستوحاة من الأساطير القديمة .
ماركو: إيطالي، يلتقط صورًا للحياة اليومية ويحوّلها إلى لوحات رقمية .
كانت ليلى صامتة في الزاوية، تراقب وتدوّن في ذهنها الملامح والانفعالات. لم تتكلم كثيرًا، لكن عيناها كانت تبحث عن شيء مألوف، ربما عن ظل مدينة الإسكندرية في عيون الآخرين .
في ورشة اليوم الثالث، طُلب من كل مشترك أن يعبّر عن "البحر" بطريقته. جلست ليلى لساعات، لا ترسم فقط، بل تفرغ مشاعرها. رسمت امرأة واقفة على الشاطئ، بعينين واسعتين فيهما حيرة العالم، وفي يديها فرشاة ورسالة مفتوحة .
كانت اللوحة تقول الكثير دون كلام: عن الانتظار، عن الحدود، عن الحنين
اقترب منها آدم بعد العرض وقال بهدوء :
"البحر في لوحتك بيبكي... بس بيحضن كمان. حسّيت كإني شايف حلب والإسكندرية في نفس الموجة ."
ابتسمت ليلى لأول مرة منذ وصولها
في تلك اللحظة، لم تعد مجرد "مشاركة مصرية خجولة"، بل صارت واحدة من الجماعة. الجماعة التي لا تجمعها الجنسية، بل الألم المشترك، والفضول المشترك، والأمل المشترك .
الجزء الثالث
" مشروع ضفة تاني "
مع مرور الأيام، صارت ليلى أكثر حضورًا. لم تعد تكتفي بالمراقبة، بل بدأت تطرح الأسئلة، تناقش، وتضحك من قلبها .
كانت الورشة تقترب من نهايتها، والمدربون أعلنوا عن تحدي أخير
في آخر يوم، هنعمل مشروع جماعي. نختار فكرة تمثّل روح المتوسط، ونقدمها سوا
انقسم المشاركون إلى فرق. البعض اقترح مشاريع تكنولوجية، والبعض الآخر أراد تقديم عروض موسيقية أو مسرحية .
لكن ليلى، التي طالما أخفت صوتها، وقفت أمامهم لأول مرة وقالت :
أنا عندي فكرة... لو نرسم البحر كإنه شخص بيسمعنا كلنا؟ كل واحد فينا يحكيله قصة أو يرسمله حاجة من بلده... كأننا بنبعتله رسائل
ساد صمت مفاجئ. نظرات الدهشة تحوّلت تدريجيًا إلى إعجاب ماركو صفق وقال:
Bella idea! فكرة جميلة. البحر كصديق... كأننا بنعيد تعريفه
سمّوا المشروع "ضفّة تانية"
ورسم كل واحد لوحته على قطعة قماش مربعة، تشبه شراع صغير. مريم كتبت قصيدة بالفرنسية والعربية، لينا نحتت مجسّم صغير لصخرة، وآدم رسم سفينة طافية وسط الغياب، بينما ليلى رسمت نفسها وظهرها للكاميرا، تنظر للبحر وفي يدها ورقة مكتوب فيها كلمة واحدة
" اسمعني "
جمّعوا القطع كلها على جدار طويل داخل القاعة. صار كأنه مراكب صغيرة تتحاور، تعبر البحر في صمت مشترك
وفي يوم العرض الأخير، حضر جمهور من فنانين وصحفيين وسفراء، ووقف الشباب يعرضون مشروعهم
تقدمت ليلى لتشرح الفكرة أمام الجميع، وصوتها رغم توتره، كان واضحًا وملهمًا. قالت :
إحنا جينا من بلاد بعيدة... لكن وجعنا واحد. واللي بيربطنا مش الجغرافيا، بل الرغبة في إن صوتنا يوصل. المشروع ده مش بس عن الفن، ده عن فرصة نكون بشر، نحكي ونسمع... عبر ضفّة تانية .
حين انتهت، علا التصفيق. بعض الحضور دمعت عيونهم. كان المشروع بسيطًا في فكرته، لكنه صادق وعميق
بعد العرض، اقترب منها أحد منظمي الحدث وقال بابتسامة
""لو كنتي فاكرة إن البحر ملوش ودان... فالفن ده خلاه يسمع
الفصل الرابع
الليلة الاخيرة :
بعد العرض، انتهت الورشة رسميًا. بدأ المشاركون في حزم أمتعتهم، وتبادل الحسابات "على إنستغرام، وفيس بوك " وتبادلوا صور تذكارية بينهم .
لكن ليلى ماقدرتش تنام في الليلة الأخيرة. خرجت تمشي في شوارع تونس القديمة، والشوارع كانت هادية كأنها بتهمس لها
"انتي مش زي ما جيتي"
جلست على سور مطلّ على البحر، وهناك لمحها آدم، وجلس جنبها من غير كلام قالت له بعد لحظة صمت :
"أنا دايمًا كنت فاكرة إن البحر بعيد... كبير... غريب. بس دلوقتي حاسة إنه جوايا "
ردّ وهو بيبتسم :
"" لما نرسمه، أو نكتبلُه، بنقرب منه... وبنقرب من نفسنا كمان
بعد الرجوع إلى مصر، ماكنتش ليلى زي قبل السفر. بدأت تنشر لوحاتها على الإنترنت، وتكتب قصص صغيرة بالعربي والإنجليزي. أنشأت صفحة سمّتها "ضفّة تانية"، وبدأت تتلقى رسائل من شباب من سوريا، المغرب، تركيا، وحتى إيطاليا
رسالة واحدة علقت معاها
"أنا اسمي سليم، من غزة. كنت فاكر إن صوتنا مش بيوصل، لكن شُفت لوحتك وحسّيت إنك بتحكي عنّي ."
بكت ليلى وهي بتقرأ الرسالة، مش من الحزن، لكن من الإحساس إن الفن فعلًا ممكن يبني جسر، حتى فوق مية مليانة وجع
في أحد الأيام، دعتها مدرّسة في مدرسة ثانوي بالإسكندرية تقدم ورشة رسم لطلاب بيحسّوا إنهم مش مسموعين
وقفت قدامهم وقالت :
"أنا مكنتش أعرف إن صوتي له معنى... لحد ما البحر ردّ عليا"
ورسمت معاهم نفس الفكرة: كل طالب يرسم البحر كصديق
واحد رسمه بعينين، واحدة رسمته وهو بيحضنها، وواحدة كتبت فوقه
""أنا مش خايفة طول ما في حكايات بتتقال
في نهاية الورشة، بصت ليلى للبحر من شباك المدرسة، وقالت لنفسها .
أنا رجعت من تونس، بس الحكاية مخلصتش ... الحكاية بقت جزء مني .
الجزء الاخير
صوت البحر...
في الصباح فتحت تليفونها واذا بها تجد إيميل من "بحر من الكلمات "
"تهانينا! قصتك اختيرت ضمن القصص الفائزة، وندعوك لحضور الحفل في مدريد "
قعدت تبص للشاشة كأنها مش مصدقة، وبعد لحظة، لمعت عينيها بنفس الدموع اللي كانت بتنزل زمان من الوحدة... بس دلوقتي بتنزل من الإحساس بالقيمة .
في مدريد، وقفت ليلى على خشبة مسرح مش كبير، لكن القاعة مليانة شباب من كل حتة حوالين البحر. ناس من الجزائر، فرنسا، لبنان، إيطاليا، فلسطين، اليونان
كلهم جايين يحكوا، يرسموا، يكتبوا… ويشاركوا حلم بسيط
إن البحر مايفرقناش، البحر يجمّعنا
: أخدت نفس، وقالت
أنا جاية من مدينة قريبة من البحر… بس عمري ما كنت شايفاه كجسر
كنت شايفاه فاصل، نهاية
لحد ما رسمته، وكتبته، ولقيته بيرد لقيته بيقولّي : انا جواكي، مش بعيد عنك
"وإنتو كلكم… كنتوا صوت البحر بالنسبالي"
بعد الحفل، قرب منها شاب من برشلونة، قال لها
أنا كنت فاكر إننا مش هنفهم بعض، لا في اللغة ولا في المعنى. بس قصتك فهمتني حاجة... إن الإحساس لوحده بيتكلّم
رجعت ليلى مصر، بس الإحساس لسه جواها
قررت تعمل نادي صغير في مركز شباب في حي هادي، وبدأت تجمع أولاد وبنات من سن 14 لـ 20 سنة، وتحكيلهم عن تجربتها وتشجعهم .
في اعماق كل واحد منكم بحر ، والبحر ده محتاج صوتكم عشان يهدا
وكل بحر، عنده قصة مستني يسمعها
بنت صغيرة قالت لها
""أنا كنت فاكرة البحر حاجة بتخوف... بس دلوقتي حاسة إنه صاحبي
ضحكت ليلى وقالت :
بس كده؟ يبقى أنا نجحت
واتفقت معاهم إن كل واحد يكتب رسالة للبحر
فيه اللي شكر البحر، واللي اعتذر له، واللي طلب منه يحافظ على اللي بيحبهم
أما هي... فكتبت على ورقة صغيرة
شكرًا إنك رجّعت لي صوتي ....
وخليتني أسمع أصوات كتير كانت مستخبية في الموج .








































