✦ إهداء ✦
إلى كل امرأة
حولت وجعها إلى جسر… وعبرت،
وسقطت… فنهضت أصلب وأجمل.
إلى التي خبزت العزيمة من تعبها،
وسقت ابناءها من قلبها،
وحاربت الحياة ولم تهزم…
إليك، ايتها العظيمة التي لا يكتب التاريخ اسمها،
لكن تكتبه الأيام في عيون من أحببتهم،
وفي أثر لا يمحي.
لك وحدك ينحني المجد،
وتقف الحياة احتراما…
فالأسطورة لم تكتب بالحبر،
بل بالدم، والعرق، والصلوات.
✦ القصة ✦
لم تكن آمال مجرد اسم…
كانت نبوءة خلاص، كتبت على جلد الأيام قبل ان تولد.
في ريعان العمر، حين تزهر الأحلام على أرصفة القلب، تعثرت خطواتها عن مقاعد الدراسة، فسقط الكتاب من يدها، ولم تسقط هي. حملتها الحاجة الى أبواب البيوت… عاملة، تخدم، تمسح الغبار عن رفوف ليست رفوف قلبها، وتطهو في قدور ليست قدور احلامها.
أغراها بريق الرفاه، فوهبت عمرها بلا حساب.
خمس سنوات كانت ترسل فيها راتبها لأسرتها، تحك به جدران الفقر لعلها تنهار…
ثم جاء الزواج على حين غفلة، مثل توقيع سريع على عقد لم تمهل لقراءته. أنجبت وهي على أعتاب العشرين، زوج يرى الدنيا جيبا مملوءا لا قلبا ينبض. لا يسمع أنين تعبها ولا يرى ثقل الأمومة على كتفيها. وحين اختنق الصبر، لم تتراجع… اختارت أن تكسر القيد، ولو جرحت يداها. طلبت الطلاق، وخرجت من الباب مرفوعة الرأس، لا مهزومة.
عادت الى نقطة الصفر…
لكنها هذه المرة عادت ببصيرة لا بغفلة.
ادخرت، واستجمعت نفسها، حتى صرخت الأيام في وجهها من جديد:
رحلت عن الدنيا، السيدة التي كانت تعمل عندها… فغاب العمل، وجف المورد، وضاقت الأرض.
مد لها رجل يد بدت طيبة. منحها عملا في مقهى محترم، فقبلت وهي تتأرجح بين الظل والنور. ثم أسدل الستار على علاقة انتهت بزواج فاخر… ضحكات عالية، زغاريد، وفستان أبيض لامع يخفي ندوب السنوات الماضية.
خمسة أعوام من الأمان، تزهر فيها صباحات عائلتها بطفلين صغيرين، ورجل يحاول ان يعوض أبناءه ما سلب من طفولته.
كان كريما مع الجميع حتى مع إلياس ابنها من زواجها الأول … سخيا أكثر مما تحتمل الظروف، وأكثر مما تحتمل الحياة.
ثم جاءت الريح.
أفلست الشركة.
وسقط سعيد من علوا الوهم إلى قاع الواقع.
الرجل الذي لم يعرف العرق يوما، وجد نفسه يمسح الشوارع وينفض غبار الورش، يبيع السجائر على قارعة القلق، كأن الأيام تقول له: هكذا يدفع ثمن الغفلة.
لكن الضربة التي قصمت روحه… لم تكن الفقر،
كانت مرض أمين… ابنه الصغير.
هناك انكسر الجدار.
لم يحتمل الأب العجز… فهرب،
هرب بلا عودة،
هرب دون ان ينظر خلفه،
هرب كمن يترك ظله ويمشي.
وبقيت آمال…
وحدها، لكن غير وحيدة.
شدت على يد ابنها الأكبر إلياس، الذي صار رجلا قبل أن يكبر. كان في الرابعة عشرة، لكنه يحمل الأربعين في نظراته. يطوف بالمحلات يحمل سلال الفطائر التي تعجنها أمه من دقيق العزيمة.
وبين ارتفاع الفجر وانطفاء المصابيح عملت:
تدرس الاطفال ليلا…
تخبز النهار خبزا لا يشبه إلا الصمود…
و تربي ثلاثة قلوب على ألا تنحني.
الفقر… لم يكسرها.
المرض… لم يروعها.
الغدر… لم يطفئها.
الوحدة… لم تسكتها.
كانت مثل سنبلة دهستها العواصف،
فخرجت منها الحبوب أكثر صلابة،
وأكثر قدرة على الإنبات.
واليوم…
على مشارف الاربعين،
تجلس آمال تحت شمس نضجها،
لا لتدفأ… بل لتلمع.
إلياس، ابن الالم الذي صار ابن الحلم، صار سندا، رجلا يعمل، يفيض عطاء، ويعيد لها ما أنفقته روحها قبل يدها. يقدم لها الحياة في طبق عرفان، فتتنفس أخيرا دون أن تحسب الهواء.
ترفرف في صدرها نشوة المنتصر، لا لأنها نالت ما أرادت…
بل لأنها لم تسقط حين سقط الجميع.
آمال لم تهزم…
كل ما حدث، أنها كانت تكسر لتعاد صياغتها في صورة أصلب وأجمل.
إنها ليست إمرأة قاومت الحياة…
بل إمرأة انتزعت الحياة من الحياة نفسها،
وربت أبناءها على أن الحلم… لا يموت،
ولو عجن بالدم والعرق.
بقلم : محمد خوجة
اكتب لا لأروي حكاية،
بل لأخلد إمرأة جعلت من العتمة ضوءا،
ومن الانكسار بداية للنهضة.
اكتب لأشهد… كيف يصاغ الصمود من نبض حي.








































