كانون الثاني
والشمس ترسل خيوط أشعتها في احدي الصباحات الباردة، وكنا تحت ظل شجرة المانجو، ننهل من بحر المعرفة، ونسمع ترانيم المزامير في كلية الموسيقي الطابق الأرضي، وكانت استيلا تغني كما لم يعزف موزارت من قبل، تدوزن اللحن الشجي بأوتارها الحادة.
تفيق المساحات الجافة بداخلي، كفيضان يمر على أرض زراعية، كاد الغناء أن يغرقني، فأنا قتيل الكلمات.
وكانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا، وقطع المانجو الناضجة معلقة في أعلي قمة الشجرة، كأنها تنتظر قدوم فتي وفتاة بملامح سمراوية تشبه قشرة المانجو، وناضران كأليافها، تحت آس المانجو، آمالنا معلقة كقطعها الناضجة، تنتظر أن نقف يوما أن نقع من ارتفاع شاهق كي تموت الآمال.
نبدأ صباحاتنا كالعادة بكوب الشاي كتهويدة صباحية، ونفك طلاسيم الكيمياء الحيوية قليلا، ونعانق الفرح اليافع في الصباح بهمس وأنين وغناء يلامس أوتار القلب ونمزجه بنظرات فيها من الطفولة والبراءة والشيخوخة وكل ذلك في نظرة واحدة ناضجة فاحصة.
في جوبا الجميع يتنفس أعقاب الغربة ونحن نحترق رويدا رويدا في بلاد جون، وحده الرماد يعرف كيف يكون الاحتراق التام.
نغدق النظر في طويل الساقين، وسيدة نيلية سمراء، فيها الثقافة الأفريقية، فاضحة المنكبين، ترتدي ملابس قصيرة على الساقين، وكأنها شجرة خالية من لحاء، فقط تغطيها بعض الأوراق.
ونحن نجلس ونحترق رويدا رويدا على المقعد منذ الصباح، قبل أن يدق ناقوس الخطر بعد يوم ملئ بالمحاضرات الإنجليزية وطنين اللهجات داخل القاعة.
نخرج ونحن جثث هامدة، كنا نجلس والرياح تعانق أطراف المانجو وتقطع أوتار الثمرة المعتقة والتي أكلت منها الطيور.
سقطت قطعة منها على فستان استيلا المطرز بطريقة كلاسيكية تشبه الأميرة ديانا أيام الحقبة الإنجليزية.
انشقت الثمرة على الأرض، وتطايرت منها ألياف على فستانها الأنيق، ليجعل الصباحات تعكر مزاج الآنسة.
أخرجتْ منديل ورقي تمسح به أطراف القماش، وبذلك تؤدي الرياح طقوسها المفضلة في حفل زفاف المانجو، بأن تسقط الثمرة كالوصيفة في حضرة ملك مبجل.
تقبلت استيلا الأمر، ولعل أصعب شئ علي الآنسات تقبله هو تغير مظهرها الخارجي، كتسريحة شعرها أو رموشها، الأنثي بسيطة جدا، تحزن ربما فقط من فتاة كانت ترتدي نفس الفستان الذي ترتديه أو أحدهم قال لها إنك اليوم لا تبدين جميلة، أو كلمة فقط يمكن أن تغير مسار يومها، فرفقا يا ثمار المانجو بهذه الأنثى البسيطة، التي تفكر قبل يومين ماذا ترتدي، وفي أي ساعة تخرج، وما نوع المكياج المناسب حسب المناخ، والتسريحة التي تتماشى مع اليوم.








































