حين يغدو الصمت مرآةً للأشياء، تظهر الوجوه في زوايا الأمكنة التي عبرناها يومًا، تحمل ملامحنا القديمة، ولكن بألوان جديدة. هناك، في زوايا المكتب، على المقاعد الفارغة في المقهى، وحتى في أرفف المكتبة التي لم نلمسها منذ سنوات، تتحرك الذكريات كما لو كانت شخصيات حية، تنظر إلينا بعينين لم نعرف أنهما كانتا موجودتين.
نخدع أنفسنا حين نظن أن الصور تبقى كما هي، وأن الفراغ مجرد مساحة خاوية. لكن كل إطار صار سجنًا، وكل لون صار حكاية. الصمت هنا ليس خلوًا، بل لوحة تتحرك فيها شخصياتنا القديمة: أنا، وأنت، زميل غادر قبل سنوات، صديق لم نره منذ طفولتنا، وكل ما تركناه خلفنا، يحاول أن يروي قصته.
في صمت الغياب، لا تتوقف الأشياء عن الكلام، لكنها تتحدث بلغة لا يسمعها سوى من تجرأ على الإنصات. هل لاحظت أحيانًا كيف يبدو الكرسي الذي يجلس عليه أحدهم خاليًا؟ أو كيف تهمس الصفحات الملتقطة بالغبار باسم شخص ترك أثره على حياتنا؟ هناك، بين الأبواب المغلقة والنوافذ المظلمة، تتسرب أصواتهم: همسات من الماضي، ألوان الذاكرة، وابتسامات عابرة لم نلتقطها حين كانت حية. كلهم الآن يشكلون بورترية متكاملة لما كنّا، وما لم نكن، وما أصبحنا بعد أن غادرنا.
الفراغ ليس فراغًا، بل غرفة صغيرة تحمل وجوهًا معلّقة على الجدران، وكل وجه يحمل سؤالًا لم يجرؤ أحد على طرحه. كيف نفرّق بين ما كان حقيقيًا، وما تبقى مجرد انعكاس لما توهّمناه؟ بين ذكرى جلستنا مع صديق قديم على مقهى مهجور، وبين شعورنا حين نرى كرسيه خاليًا؟ بين ما نحتفظ به في صورنا، وما يتشكل في الظلال كلما غادرنا؟
ربما، نحن من غادر، وربما الأشياء هي التي اختارت أن تستمر. وما بيننا وبين تلك الوجوه، هناك صمت، يحفظ تفاصيلهم بدقة أكثر مما نحفظها نحن. وربما، في النهاية، ما يهم ليس ما بقي، بل ما نختار أن نراه في مرآة الذكرى، في البورترية التي نصنعها كلما أعدنا النظر إليها.








































