"الحزن يفقدك لذة الحياة، فتصبح جسدًا بلا روح، تتنفس ألمًا، وتشرب قهرًا، وتقتات حبوب النسيان، ولكنك لا تنسى، تحاول أن تعود للحياة، تبدو ميتًا رغم إنك ما زلت على قيد الحياة؟!"
كانت سارة تعتني بوالدتها، التي تعبت بعد موت أحمد، لم تعد تتذكر أحدًا سوى أحمد، لا تدري هل هو رحمة بها أم عذاب؟! لم تعد تتذكر سارة بنتها أو زوجها، فقط أحمد تسأل عنه كل وقت وتنتظر عودته! وكأن خبر موته مُحي من ذاكرتها ومحي معه الكثير من الأشياء.
في شقة سامر بدت شيرين بحالة بشعة، نظرت له بعينين حمراوتين كلون الدم، تطاير منها الشرر، شفتها السفلى ترتجف بشدة، وعيناها جاحظة، تحدق في سامر بطريقة مفزعة، حاملة السكين ويدها ترتجف بخوف، وجسدها لا يتوقف عن الاهتزاز؛ وقف سامر مذهولًا من حالتها، يتألم من طعنتها له، أمسك كتفه بألم، وأقترب منها محاولًا فهم ما حدث، نهرته وابعدت يديه بقوة وقد تغير صوتها تمامًا، كأنها تبدلت بشخص آخر، حدجته بنظرة غضب ووعيد وهي تلوح بالسكين، مرددة بصوت أجش: ابتعد عني وإلا قتلتك أيها القاتل!
أيقن سامر أنها وقعت تحت تأثير السحر، يعرف تلك الأعراض جيدًا، مرت عليه حالات كثيرة عند ربيعة، وتساءل بحيرة "ماذا سيفعل؟! تنهد بحزن وأسى على حالها، وتذكر الخطبة التي حضرها عن السحر، وقرأ أية الكرسي ونفث في وجهها، وكرر ذلك عدة مرات، حتى هدأت قليلًا فجذب منها السكين برفق، وضمها مرددًا آيات من القرآن وهو يتألم وينزف، انتفض جسدها بعنف كأنها عادت من عالم أخر، لاحظت الدماء تسيل من كتفه، نظرت له بعين دامعة، وتنهدت بحزن شديد باكية بحرقة: ماذا حدث لك؟!
قال وهو يمسح دموعه: لا شيء، لا تقلقي، مجرد حادث وجرح صغير.
من بين نهنهتها وبكائها تردد: لا أتذكر شيئًا، أرجوك هيا نذهب إلى المشفى فجسدك ينزف.
هز رأسه بالرفض وجلس على الأريكة وشيرين بجواره مفزوعة، خائفة عليه، تلح عليه بالذهاب بينما هو يصر مرددًا: لا لزوم للمشفى، وضحك مستهزأً: يفترض أن نمكث في المشفى، بدلا عن الذهاب والإياب كل يوم، ما رأيكِ لو حجزنا غرفة هناك، الأمر أشبه بالإقامة الدائمة؟!
بينما هي تحاول وقف النزيف، علا وجهها ابتسامة باهتة وقالت بحزم: لا تحاول أن تتظاهر بعدم الألم، الجرح يحتاج تعقيم وخياطة، نزفت كثيرًا، لا بد من الذهاب للمشفى، لا تعاند.
يتألم قليلًا ويحاول إخفاء ذلك عنها: ليس عنادًا، سأتحمل الألم كله من أجلكِ، لن أذهب للمشفى، الأمر لا يستحق حقًا، وضعت شيرين القهوة على الجرح لوقف النزيف، ثم أعطته بعض المسكنات وخلد للنوم بعد يوم عصيب على الجميع، بينما شيرين لم تنم، شغلها ما حدث له، كيف جُرح ولماذا كانت تحمل سكينًا بيدها؟! فلا تتذكر شيئًا، شردت فيما سمعت من سامر عن ربيعة، وتعجبت كيف يؤذي البشر بعضهم هكذا؟! أي قسوة تلك التي تمتلكها قلوبهم؟! وهل يمتلكون قلوبًا حقًا؟! تذكرت ما حدث لوالديها ودموعها تتساقط. وتساءلت "هل كان سببه السحر؟! لماذا ذهبت أمي إلى ربيعة؟! كيف صدقت في ذلك وطاعتها؟! يارب رحمتك ولطفك بما جرت به الأقدار، اللهم صبرًا وعونًا على تحمل ما حدث.
اشتعلت الأفكار في رأسها حتى رأت الضوء يتسرب من خلف زجاج النافذة، أخذت غفوة لتستيقظ في العاشرة صباحًا، تحسست مكان سامر بجوارها لم تجده، همت بالنهوض من فراشها، باغتها سامر وهو يحمل وجبة الإفطار، قائلا بحنان: صباح الخير زوجتي الحبيبة، أحضرت أجمل إفطار لأجمل وأرق زوجة، ثم وضع الطعام واقترب مبتسمًا وقبّلها بحب.
ابتسمت شيرين، وأيقنت أنه لا يحبها فقط بل يعشقها بكل جوارحه، وهي أيضًا تعشقه لكن تلك الظروف الصعبة، خلقت بينهما فجوة كبيرة، وهمست إلى نفسها "هل ستذوب جبال الثلج التي عصفت بها رياح ربيعة وشرورها؟ هل سنعيش معًا حياة سعيدة خالية من الألم والخوف والفقد؟! هل ستحل تلك اللعنة بعيدًا عنا؟ هل ستمنحنا الحياة حياة أخرى بلا حزن؟! هل سنعيش سعداء كما نريد؟!" تذكرت والدتها وحاجتها إليها، تحتاج أن ترتمي في حضنها وتبكي حتى تزيل كل همومها، تحاول أن تمنع دموعها من النزول وتتمالك نفسها.
تناولا الطعام، وأخذ كل منهما الأدوية الخاصة به، فجأة تبدل حال شيرين، تشنجت أعضاءها، وكزت على أسنانها، أغلقت عيناها بعنف، وتأرجح جسدها للأمام وللخلف بسرعة كما لو أن هناك ما يسيطر عليها لتكرر تلك الحركة بلا توقف. حاول سامر مساعدتها ولكنه فشل، حملها إلى الحمام ووضعها تحت المياه الباردة، لفك التشنج لكن دون جدوى، الأمر زاد سواء وتعالت صرخاتها متتالية، سمعت سارة صوتها فنزلت مع علي لتطمئن عليها.
طرقات متتالية على باب الشقة، يمتعض سامر مرددًا: ليس وقتكما، الأمر لا يحتمل نقاشات ولا تفسير يا سارة.
ولكنه مع تعالي الطرقات ورنات الجرس، فتح لهما مضطرًا، ولم ينبس ببنت شفة. دخل مسرعًا إلى شيرين، وهرعت سارة مفزوعة خلفه، ضمتها وتلت عليها آيات من القرآن حتى هدأت قليلًا، رمقت سارة سامر بعصبية ثم قالت بغضب: الأمر فاق كل تحمل، لن أسمح أن يحدث لشيرين أي مكروه، لن أفقدها مثل أمل، ماذا حدث لها؟!
دخل علي مسرعًا على صوت سارة الهادر، وحاول تهدئة الموقف، تنهد سامر بحزن، وأسند جبهته على الحائط ودفن وجهه بين يديه وهو يبكي بعنف، اقترب علي منه وربت على كتفيه وأخذه إلى الصالون، بينما ظلت سارة مع شيرين، وعلى وجهها علامات الحيرة والألم والحزن، أمسكت يدي شيرين وربتت عليهما بحنان وعطف، كأنها تمنحها القوة والأمان والعون.
ونظرت لها بعين دامعة، وقالت بصوت هادئ حنون: حبيبتي شيرين، احكِ لي ما حدث، ألستٌ سارة صديقتكِ وأختكِ؟! لا تخافي ولا تترددي، احكي.
تلعثمت شيرين خجلًا من سارة، كل يوم تشغلها معها بهمومها ومصائبها التي لا تنتهي، ترددت وهمست لنفسها "هل أحكي لها أم لا؟!"
ثم أجابتها شاردة: لا أعرف ماذا أقول لكِ، الأمر مريب وصعب جدًا يا سارة.
هزت سارة رأسها وهي في حالة إصغاء شديد لها، قائلة: تكلمي ولا تخافي، أنا أسمعكِ، لن أسمح لأحد أن يمسك بسوء، صدقيني يلزمكما مساعدة طالما الأمر سيئ لهذه الدرجة.
هدأت شيرين واطمأنت قليلًا، وشرعت تحكي كل شيء.
بينما سامر يبكي في الصالون بحرقة، والغصة تزداد ثقلًا في حنجرته، أخذ ينشج بصوت كسير، تحشرجت الكلمات في فمه، ناوله علي كوبًا من الماء، شرب منه القليل، ثم هدأ واعتدل في جلوسه.
بعد صمت دام لدقائق، شرع سامر في الحديث، وحكى لعلي كل ما حدث معه وسط دموعه.
ما إن انتهى من كلامه حتى أذن الظهر، فنزلا للصلاة وأثناء عودتهما قابل علي صديقه الشيخ خالد، تصافحا وتبادلا التحية والسلام، ودعا خالد سامر وعلي لحضور ندوة الليلة في المسجد، وأخبرهما أنه سيُلقي خطبة عن السحر .
تردد علي في الموافقة، ولكن سامر رد سريعًا: نعم سنحضر الليلة بإذن الله.
وكأنه يبحث عن طوق النجاة من سحر ربيعة وشرورها.
ظلت سارة طوال اليوم مع شيرين، أعدت الطعام لها، وجلست تتلو القرآن بجوارها، حتى نامت.
شردت سارة قليلًا مسترجعة أحداث مضت…
بعد موت أمل عكفت على حفظ القرآن، موقنة أن الدنيا فانية والآخرة خير وأبقى، وأن العمر قصير، فأكملت حفظ القرآن ودرست العقيدة والفقه، كانت ما بين دروسها بالمسجد وحفظها ورعاية والديها، لولا ذلك لماتت حزنًا، حتى جاء علي يتقدم للزواج منها، ترددت كثيرًا، الخوف من الزواج وذكريات ما حدث لأمل لا تفارقها، رغم انشغالها بالعبادة، استخارت الله مرات وفوضت أمرها له، فكتب لها زوجًا صالحًا رحيمًا بها، وافق على السكن مع والديها ورعايتها لهما، ورعاهما بحب ورحمة معها، ورغم عدم إنجابهما أطفال حتى الآن، فهما راضيين بقضاء الله ولا يكفان عن الدعاء والتضرع لله، واثقين في رحمته في المنع والعطاء.
يعاملها بكل احترام وود ورحمة وحب، رغم حزنه الشديد على حال أخته ثريا، الفتاة العشرينية التي حلت عليها لعنة السحر، جمالها كان حديث المدينة، لم يرها شاب وإلا وتقدم لخطبتها، وكانت تنتظر إنهاء تعليمها، كانت الحياة تسير معها بسعادة حتى ذلك اليوم الذي نشرت فيه صورتها على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي؛ ليراها شابٌ يدّعي أنه شيخٌ ويتعلق قلبه بها، يحاول الوصل إليها برسائل، فلم يصل؛ فتلون كالحرباء ليصل إليها، أنشا صفحة دينية وأرسل لها دعوة للصفحة فقبلت، ودخلت مصيدة الثعبان بقدمها، تعليق على المنشورات وردود، منشورات عن السحر وتساقط الشعر الذي تعاني منه البنات، توهمت وخافت وأحست كأن كل الأعراض لديها، فدخلت الخاص لتسأله عن التحصين والعلاج، وبدأ الحوار كل ليلة تعلق قلبها به وشغفها حبًا، بينما كان علي أخيها في فترة التجنيد، فانساقت خلف العشق والهوى والوعود، وخدعتها المظاهر، شاب وسيم ذو لحية، يبدو تدينه ويعالج السحر، طلب مقابلتها لفك السحر عنها، وعندما علمت والدتها منعت عنها الهاتف المحمول والنت، تبدل حالها وبدأت المعاناة. فتح والدها الهاتف ليجد رسائل تهديد بالسحر الأسود، فأبلغ عن الصفحة وتم غلقها بعد عدة بلاغات، لكن زادت حالتها سوءًا وذبلت، لم تترك والدتها شيخًا ولا مسجدًا إلا ذهبت بها، ولكن لم يتم التوصل لحل، ابتلاء عظيم حل على رؤوسهم جميعًا، وجب عليهم الرضا مع دموع لا تفارق عيونهم وحزن يملأ القلوب على زهرة شبابها.
حفظ علي القرآن ودرس العقيدة والفقه وحاول تعلم فك السحر لكنه لم يقوَ لرقة قلبه والأمر يتطلب جهد وقلب قوي، لم يكفوا عن المحاولات التي تبوء دومًا بالفشل. سنوات وثريا تعاني من الصرع، أدوية لا تجدي نفعًا، وشيوخ من كل بلد للعلاج بالرقية الشرعية ولا تحسن لحالتها. حاولت الانتحار عدة مرات، لولا عناية الله وحفظه لها. مرت السنين ورضوا موقنين بما يخبئه الله لهم جزاء صبرهم على ذلك البلاء.
خافت سارة أن يصبح مصير شيرين مثل ثريا، تساقطت دموعها وهي تدعي الله لها ولغيرها بالشفاء وفك كربهم ورفع البلاء عنهم.
بعد صلاة العشاء، جلس سامر مع علي لحضور الندوة الدينية بالمسجد، كان سامر يستمع بإصغاء شديد، ثم جاء دور الشيخ خالد ليلقي خطبته:
وبعد أن تحدث الزملاء عن السحر وحكمه، سأحدثكم عن كيفية التحصن منه، وكذلك العلاج، فمن ابتلي بالسحر، فليلجأ إلى الله بالدُّعاء، وبالرقية المشروعة، واعلموا إن الوقاية من السحر تكون بالمحافظة على تلاوة القرآن الكريم، والتحصن بالأوراد والأذكار اليومية، وقراءة آية الكرسي بعد كلِّ صلاة وعند النوم، وقراءة: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾، وأيضًا بالدعاء الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه :(أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، ثلاث مرَّات صباحًا ومساءً.
وفي سنن الترمذي (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شَيْءٌ ».
وروى أحمد أن الرسول قال: « يَا ابْنَ الصَّامِتِ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَقَانِي بِرُقْيَةٍ بَرِئْتُ أَلاَ أُعَلِّمُكَهَا ». قُلْتُ بَلَى.
قال « بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ حَسَدِ كُلِّ حَاسِدٍ وَعَيْنٍ بِسْمِ اللَّهِ يَشْفِيكَ».فالله سبحانه وتعالى هو الشافي والمعافي من كل سوء، وهو المتصرف في عباده كيف يشاء، فليحسن المرء ظنَّه بربه، واكثِروا من قِراءةِ القرآن خاصة سورة البقرة، واشغَلوا أوقاتَكم بذكرِ الله وعبادتِه، فالقرآن شفاءٌ من الأدواء، وذكرُ الله يحْرسُ العبدَ مما يؤذيه، ويشرَح الصدرَ ويُطَمئِن القلب؛ قال تعالى: ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ﴾.
فكر سامر في إحضار الشيخ خالد لعلاج شيرين بالقرآن، وأخبر علي ليطلب منه ذلك، جلسا بعد الخطبة مع الشيخ خالد وحدثه سامر عن حالة شيرين، وطلب منه الحضور للرقية والتحصين فوافق وقرر الذهاب معهما الآن.
وصلوا إلى الشقة ورن سامر الجرس مع دقات على الباب قبل فتحه بالمفتاح لتستعد شيرين وسارة، دخلوا جميعًا إلى الصالون، واتجه سامر ليطمئن على شيرين ويخبرها بتجهيز حالها، لكن هاله ما وجد، لم تكن شيرين بفراشها، ووجد القط المذبوح بالفراش، صرخ بهلع فحضر علي ومعه الشيخ خالد، الذي أخذ يتلو آيات التحصين للمكان، بينما بحث سامر في باقي الشقة فلم يجدها، شرع علي في الاتصال بسارة، فوجئ بها تفتح باب الشقة، فاتجه سامر إليها مسرعًا يستفسر عن مكان شيرين، فزعت وأخبرته أنها صلت العشاء واطمأنت على شيرين في فراشها، وعندما وجدتها مستغرقة في النوم، صعدت لتطمئن على والديها.