حول مائدة الأحزان جلست (ملك) وصديقتها (ندى) ..تفضيان لبعضهما .. ويتناولان أسرارهما ، ويتبادلان أحزانهما معا ، قالت ملك :
" أنتِ منبهرة بقوتي يا ندى ، وتتمني صلابتي وقوة شخصيتي ، تعرفينني منذ شهور ، لا تدرين شيئا عما عانيت وكابدت في حياتي ! منظري لا ينبىء عما يثور ويغلي في داخلي ! فأنا لست على ما أبدو عليه من قوة ، أنا أضعف كثيرا عما أبدو ، الكل يحسدني علي ما أملك من ثروة وأنا أفقر مما أملك ، وُلدت في أسرة متوسطة ، أب وأم وثمان بنات غيري ، كانت أمي تمتلك الجمال والحكمة ، ذنبها الوحيد إنها أنجبت إناثا فقط !!
كان أبي يعيرها بنا دوما .. تتساقط دموعها أنهارا .. ليل نهار حتي ذبلت عيناها .. تهديدات منه لا تنتهي بالزواج بأخرى تمنحه الولد الذي يحمل إسمه ! ونفذ أبي تهديده وتزوج بأخرى ، وجاء بها لتقيم معنا غير عابىء بما تعانيه أمي .. بلا رحمة بل بكل قسوة !! اعتصر الحزن والقهر قلب أمي ، كانت تموت كل ليلة ألف مرة ، بعد أن هجرها .. ليرتمي في أحضان في حضن زوجة أخرى ، إلا إن عمي لم يعجبه فعل أبي .. وأخبره بذلك .. وطالبه بأن يتقي الله في " أم بناته التي شاركته رحلة عمره بصبر مرير .."
فأستأجر بيتا أخر لزوجته .. صرنا لا نراه إلا نادرا، كان مشغولا بالزوجة الجديدة وبحملها ولم تكن سعادته توصف عندما أنجبت له ولدا ثم آخر ثم ثالث ، وانشغل بها وبهم !! ، وتركنا وأمي نعاني قسوة الحياة ، بحثت عن عمل .. ومارسته رغم معارضة أمي ، لن أنسى دموع قلبها قبل عيونها ، أهملت دراستي حتى تستطيع شقيقاتي الاستمرار في التعليم .. وكنت أرجىء دراستي عاما بعد عام ، إلى أن ماتت أمي .
وتركتنا يتيمات لا يرعاهن أحد .. ولا يسأل عنهن .. أحسسنا بقدر أمي وعظمتها .. في حين نسَينا والدنا .. وكأننا لم نكن بناته !! ؟ .. وتجرعنا مرارة اليتم والحاجة !!
رحلت أمي وسط دموعنا ومقتنا لأبي وزوجته ، التي أخذته منا ، فقدنا ـ بموتها ـ كل عطف وحنان وأمان ، فقدنا الحياة ، زاد الأمر سوءً عندما قرر أبي بيع بيتنا بعد تدهور وضعه المالي نتيجة إسرافه الشديد وتلبية كل طلبات زوجته وأولاده منها ، وذقنا الأمرين عندما أستأجر شقة صغيرة وانتقلنا إليها لنعيش مع زوجته وأولاده .. لتتحول حياتي وحياة شقيقاتي إلى جحيم زوجة أبي التي عاملتنا كخادمات لها و لأولادها !!
لولا رعاية الله لنا عندما اكتشفنا أن أمي كانت مهمومة بمستقبلنا ، وأنها لها شقة تمليك بالمشروع القومي لمحدودي الدخل ، فانتقلت أنا وشقيقاتي إليها وأصبح لنا شقة باسم أمي رحمها الله ، وكأنها كانت تشعر بما سيحدث لنا !!
تماسكنا كأخوات بحب وترابط ، تزوجت أختي الكبرى في بلد بعيد ، لم نعد نراها إلا في المناسبات .
زادت المسئولية والمصاريف ، لكنني تعودت أن أتحمل وألا أشتكي ، تمت خطبت أختي الثانية لمن تحب ، كانت فرحتها لا توصف ، كان جارا لنا .. سافر إلى الخارج ليقضي عدة سنوات ، عاد بعدها بثروة ضخمة ، حلمت وحلمنا معها بالراحة ، وتحقيق الأحلام والرفاهية ، لكن للقدر رأي آخر ، دخلت أختي للاستحمام ذات صباح ، فينفجر سخان الغاز ، تطلق صرخة مروعة ، نستيقظ فزعات .. نحاول انقاذها .. نصرخ .. مستغيثات .. النار تملأ المكان .. لا ندري ماذا نفعل .. يلهمني الله أن أغلق صمام الغاز بالشقة حتى لا تزيد النار تأججا .. في ذهول ننقلها للمستشفى سريعا .. لكنها تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل الوصول إليها .
ترحل تاركة لنا نارا تتأجج في قلوبنا .. وألما لا يُوصف لفراقها المفاجىء .. لم يتركنا الناس نقتات ونجتر أحزاننا .. فأشعلوا نار لاشاعات بانتحارها ، واتهامها بشرفها ، مما ألجأ أبي للطب الشرعي ، ليثبت براءتها ؛عارضناه جميعا أنا وأخواتي ، كنا نرفض إخراجها من قبرها وانتهاك حرمة الموتى ، ولكن لم نكن نملك من الأمر شيئا ، كنا مجبرات كما جبرتنا الحياة علي كل شيء !!
رغم إثبات براءة أختي إلا إنني اعتبرتها أهانه كبيرة ، وجرم لا يغتفر أن يشك أبي بأختي ، ولا يحترم حرمة موتها ليرضي الناس ! يا إلهي أي عذاب هذا ؟!
المر بعينه يا صديقتي ذقناه وذقنا ما هو أكثر منه ، ملايين الآهات لا تساوي ما شعرنا به وقتها !! وما زلنا رغم مرور السنين نشعر به ! فبعض الأحداث لا تُنسى و تظل بداخلك لا تموت أبدا .
مرت سنوات وأكملت دراستي ، وكنت زميلة لأصغر شقيقاتي ! وحصلنا على الليسانس معا .
توقفت عن الكلام لحظات لتجفف دموعا غافلتها وفرت من عينيها .. ثم استطردت :
مرض والدي ولم يستطع ممارسة عمله التجاري .. فقمت أنا مكانه .. حيث توجهت إلى محله .. وهناك وقعت مفاجأة !! فقد التقيت بجار لنا قديم .. أحببته وأحبني .. ولكن انقطعت أخباره فجأة .. وكما ابتعد فجأة .. عاد فجأة ليحيى في قلبي ذلك الحب القديم .. ارتجفت أوصالي .. تسارعت نبضات قلبي .. ورأيت في عينيه حبنا وهو يقترب مني هاتفا : من ؟! .. ملك ؟! .. أهذا معقول ؟! .. لم أستطع الرد .. وباح صمتي بما في داخلي .. أفقت على صوته : والله ما نسيتك يوما ! ..
لذت مرة أخرى بالصمت .. ما زال يتحدث .. كل ما وعيته من حديثه إنه يحبني كما أحبه .. وإنه لابد من زواجنا .. ظننت أنه يمزح .. فهناك فارق كبير بيننا .. فأسرته لها مكانتها الاجتماعية والمالية .. ونحن .. يا مولاي كما خلقتنا !!
رغم ذلك .. طرت على جناح البهجة والسعادة .. فقد يتحقق الحلم ويضمنا عش الحب والهناء .. يمضي بعد أن اتفقنا على لقاء بعد يومين ، لاضطراره السفر لقضاء بعض مصالحه !! لم أنم ليلتها من فرط الفرحة !! .. أشرقت الشمس ورأيتها شمسا غير التي تشرق كل يوم .. شمسا تربت على قلبي بحنان .. وكأنها تدعو لي بالهناء وتحقيق الأمل !!
مر اليومان ، ولم يحضر .. ومرت ثلاثة أيام بعد ذلك .. وكأنها دهرا .. وفجأة رأيته أمامي .. كان مهموما بعض الشيء .. سألته بلهفة عما به .. مرت دقائق دون أن يتكلم .. أصابني القلق .. وقبل أن أسأله مرة أخرى .. أخبرني بأن والده خطب له إبنة عمه العائدة مع أبيها من إحدى الدول الخليجية بعد أكثر من عشر سنوات .. وحدد موعد الخطبة بعد أسبوعين .. صٌدمت .. ومن هول الصدمة لم أنبس بكلمة .. ولم أتمالك نفسي ..
بكيت بين يديه ، واسني وأقسم أن يرفض ألا تتم هذه الخطبة وسيتحدى العالم من أجلي ، لكنني رفضت عصيانه لوالده بسببي ، حتى يتحاشى غضبه ، فقد يحرمه من الميراث ويطرده ، بالرغم من إنني كنت مستعدة لأن أبدأ معه من لا شيء !! فقد أعتدت محاربة الظروف وقهرها !! إلا إن حرمانه من رضا والديه هو ما ما أقلقني عليه ، فعواقبه في الدنيا والأخرة وخيمة .. فضلت أن أٌحرم نفسي السعادة معه ، لينعم برضا والديه ورضا الله عليه !!
أقنعته رغم إصراره أن نتركها للظروف ، قد تتغير الأحوال بين لحظة و أخرى .. وافق علي مضض وتمت خطبته !!؟ كنا نتألم معا ، من وقتها لم نكف عن اللقاء والتحدث معا كصديقين حميمين قبل أن نكون حبيبين !! نجلس علي كل موائد الحياة ، بأحزانها وأفراحها ! لم يكن بيننا أسرار، نحكي كل تفاصيل يومنا ، ونحس ببعضنا دون أن نتكلم ! أصبح عشقنا روحانيا ! إن مرضت يحس بي ويأتي بالطبيب للبيت دون أن أخبره ، كان عشقنا جنونيا .
كان يعيش على أمل أن يفسخ خطبته .. لكننى كنت دائما رافضة لذلك .. صارحني بأنه يفكر أن نهرب معا ، لنعيش حياتنا دون قيود .. فأغضب منه ..
تم تحديد زفافه ، جاءني باكيا ، بكينا معا طويلا ، تمنى لو وافقت وهربنا ، وتمنيت ذلك بيني وبين نفسي ، ولكني عدت إلى رشدي وتذكرت غضب والديه وغضب الله لعصيانهما .. ولا أرضى له ذلك .
تنازلت كعادتي عن حقي فيه وتركته لغيري لأني أحبه ! .. أتظاهر بالقوة وأنا أتجرع الالم ، وتسبح وسادتي في بحار دموعي كل ليلة ! وحدها بعد الله تشهد لحظات قهري وضعفي ! أخواتي كلهن تزوجن ، وظللت أنا وحدي أرفض كل من يتقدم لي ، حتى لا أظلم أحدا ، و أكون له زوجة ، قلبها مع غيره .
سافرت للعمل بالخارج لعدة سنوات .. تعذبنا خلالها من ألم الفراق ، رغم تحدثنا بالهاتف يوميا ، وهبت نفسي لأخواتي وأولادهم ، لم أكف يوما عن العطاء ماديا أو معنويا ..
أنا وهو ظللنا نتظاهر بالصداقة ، حتى غلبنا الشوق والحنين .. فعدت من سفرى وقد كونت ثروة لا بأس بها .. التقينا بشوق لا حدود له .. اتفقنا على الزواج بعد تلك السنوات العجاف التي مضت قاحلة ، لا حياة فيها .. حياة جافة لا زرع فيها ولا ماء !!
كنا نتوقع حربا ضروسا، من زوجته وأهله ، اقترحت أن يكون زواجنا سرا ، لكنه رفض بشدة ، وغضب مني واتهمني بأني أراه ضعيفًا !! فالضعيف فقط هو من يختبىء !!
واستكمل حديثه بأنه لن يفعل في السر شيئا حلله الله ، وإنني أغلى عنده من أن يخفي زواجه بي ، فهذا ـ في رأيه ـ إهانة لي ! وهو إن وافقني على رأيى فهو لا يستحقني .. واعدا إياي بتنفيذ ما قرره !! .. وقد كان .. وتزوجنا .
وأعلنت عائلته كلها الحرب علينا .. واشتد لهيبها وتأججت نيرانها .. ولم تخمد حتي الأن !! لن تتخيلي ما حدث وما يحدث !! أقوال وأفعال مهينة لي وله ، وقطيعة له من زوجته وأهله .
إلا إنه بمضي الوقت والاعتراف بالأمر الواقع .. فقد عادت العلاقات بينه وبين أهله .. وعفوا عنه وعني بعد ما علموا بما عانينا وما فعلته حفاظا علي بيته ، حاولت أن نتصافى أنا و زوجته الأولى ، فاتصلت بها هاتفيا .. إلا أنها كانت ثائرة غاضبة .. ونلت منها أبشع الاتهامات والإهانات .. وانهالت عليَ سبًا وقذفا !!
أغلقت الهاتف .. ولذت بالصمت وكتمت حزني ، وهي لا تكف عن مطاردتي وسبي وإهانتي و وصفها لي بأنني خاطفة رجال وغادرة وماكرة .. لم أرد عليها .. وفوضت أمري إلى الله ، فالكلام لا يضر لكنه يعكر صفونا رغما عنا !!
لازلت أما لأخواتي وأولادهن ، أتحمل همومهن ومشاكلهن بكل رضا وحب ، وكذلك والدي بعد أن أقعده المرض .. تحملت رعايته رعاية كاملة ، فهو أبي الذي أوصاني به ربي ، في الوقت الذي تخلى عنه أولاده الذكور ، الذين أنفق عليهم كل أمواله !!
تمنيت أن أنجب طفلا من حبيب عمري ، لتكتمل سعادتي ، فكم أحب شعور الأمومة ، وأشتاق أن أكون أما لابن ليَ !!
فلا يكفي أمومتي لأخواتي وأولادهن ، ذهبت لأداء العمرة مع زوجي ودعوت الله كثيرا أن يحقق لي أمنيتي .. فهو القادر على كل شىء .
كانت عينا (ندى) تدمعان تأثرا مما روته ملك .. عندما قالت لها ملك : هذه قصتي يا صديقتي فماذا عنكِ ؟؟!
فمسحت دموعها .. وأجابت على سؤال ( ملك ) :
ليس لدي ما أحكيه بعد ما سمعته منكِ ! ، أي عذاب هذا يا صديقتي .. إنكِ جبل من القوة والتحمل !! دمت ذخرا لأخواتك وللجميع ؛ وأدعو الله أن يحقق لكِ أمنيتكِ ويرزقكِ بالولد ارضاكِ الله بما تتمني وزيادة ، لقد كنت أظن إنني عانيت الكثير إلا إنه بالنسبة لما رويته ليَ .. لا يساوي شيئا !!
٢٠٢٠/١٠/٣٠