لديه إيمانٌ راسخٌ بقضيةِ وطنه، ويرى أن بلده يُحاك لها المؤامرات من كل صوبٍ وحدب، واشتعلت فيها نيران الفتنة وتأججت، وعلا صوت المدافع ليدمر ويقتل، ويقضي على الأخضر واليابس، صِدامٌ بين قناعاته ومعتقداته، اختلطت عليه الأمور، ونبت الحزن داخل أروقته، ليثمر أوجاعاً لا تنتهي لوطنٍ كان مستقره وملاذه، واضطرته الظروف أن يرحل عنه بلا عودة، ويبتعد عن ذكرياتٍ كانت له هوىً وعشقاً بلا حدود، وتأخذه خطواته لبلدٍ آخر له فيها امتداد، يحتاج أن يصله ويحتويه بين ضلوعه؛ لأنه بمثابة ذكرى تُذكره بحياةٍ كانت تدب على الأرض ثم انطفأ أوجها.
أتى ببساطةٍ يُحسد عليها، ورغم بساطته وتواضع حاله إلا أنه ثريٌّ بطيبة نفسه وتواضعه وشموخ صمته، عيناه تريان الوجود جميلاً، ولسانه عف لا ينطق إلا بالخير، وفي فترةٍ وجيزة وضع بصمته في تغيير المكان، لديه من الهمة والعزيمة ما لا يوجد عند شاب بِعُمرِ الزهور.
رأيته يضع يده فوق رأسه فتألمت له، واقتربت منه سائلاً إياه: "ما بك"؟ فضحك في وجهي، وأجابني أنه بخير وسألني عن حالي وكأن ما به شيء وهو غير ذلك، ولكني أوقن تماماً أنه ليس بخير وعلى غير ما يرام، ما هذه القوة التي رأيتها بتعبيرات وجهه؟ وكل ما فيه يتألم، آلامه كثيره فوطنه يَئِّنْ وينزف أسىً وأسفاً كل يوم .. الابن فارق الحياة في ريعان شبابه، والبقية من أولاده قد افترقوا هنا وهناك، ولم يتبقَّ له سوى رفيقة دربه، وحفيدته التي تيتمت ليصارع الحياة من أجلهم على قدر استطاعته وصبره على مُرّ الحياة.
إنه رجل قد تَخَطَّى السبعين من عمره، ولكني لم أجد في حياتي أحداً بِعُلوّ هِمَّتِه، وروعة إنسانيته، وقوته في ذاته، وعزة نفسه لِمَنْ في مثل عمره.
فاللهم بارك له، ولمن حوله، واحفظه، وَمتّعه يارب بالصحة والعافية، وامنحنا يا الله نصف إرادته، ورباطة جأشه في مواجهة الحياة وعثراتها.