هو شخص في العِقد الرابع من عمره، يسكن بجوار محل عملي، لا بد وأن يمر من أمامي قرابة العشر مرات يومياً، لا يعرف في حياته سوى ثلاثة أماكن، هي بمثابة دائرته الاجتماعية التي يدور في فلكها باستمرار، أول هذه الأماكن: مقر عملي، يتحفني بسلاماته مُرَحِبّا نهاراً وليلاً، ودائماً ما أقول له: "ادخل لتُوقِّع الحضور والانصراف كالموظفين ونأنس بك"، والمكان الثاني: (الكافتيريا) المفضلة لديه، والمتخصصة في صنع القهوة المخلوطة بالحليب، التي لا يمكنه الاستغناء عنها، وكأن في جلستها عملاً قد كُتب له ألا يفارقه، وثالث تلك الأماكن: غرفته التي يسكن فيها.
يشرب في اليوم ما لا يقل عن خمسة فناجين من القهوة بل أكثر أحياناً، وأضف إليها الشاي الأحمر الذي يتناوله طيلة يومه وكأنه ماءٌ يروي عطشه، فضلاً عن دخانه الذي ينفثه من رأسه قبل فمه ليتعدل مزاجه، وينطلق في أحاديثه دون ترتيب لأفكاره، فما أن تتحدث إليه إلا وتجد الجملة المفيدة في كلامه لم تكتمل بعد، وغالباً ما يكون ناقماً رافضاً لحاله.
لمّا سألته عن سر تسميته بكعبورة قال بكل عفوية وبساطة: هكذا أسماني الناس! واكتفى بذلك، دون أن يذكر سبباً لسر هذه التسمية، ولكن عن نفسي أراه شخصاً أماميَّ الصفة، فجبهته، وأنفه، وفمه، وخدوده، وبطنه كلهم بارزون إلى الأمام.
من يراه يظنه للوهلة الأولى طيباً ويعيش على البركة، إلا أنه ومن معاشرتي له لم أجده كذلك، بل تمكث شعرة في رأسه الأصلع عنوانها المكر، إذا فعلت فيه الخير يشكرك ويذيع نشرة أنباء عن كرمك معه على كل من يلتقي به، وإذا توقفت أو انشغلت عنه قليلاً أدخلك في لسانه الذي لا يهدأ ولا يرحم، وأطاله إلى كل من يعرفك ويعرفه، فيذكرك بالتقصير والتقطير، وكم بلغ بك التجاهل للدرجة التي تجعلك لا تحس ولا تشعر به.
لا يحب التقيد في عمل، مزاجيّ الطبع، يعمل وقت أن يحلو له، وهناك كثيرون ممن يتعاطفون معه ويأتون له بعمل مناسب وبمقابل مادي معقول لكنه يرفض، وأسباب رفضه أنه يريد أن يكون حرا طليقاً.
يذهب فقط إلى الأعمال التي ترتاح لها نفسه دون ضابط أو رابط، غريب الأطوار حقاً! وبرغم مساوئه تعودت أن أراه كل يوم لأسمع أهازيجه، فأضحك أنا ومن معي، ومن باب المداعبة بيني وبينه، وانتظار رد فعله... سألته ذات مرة:
ما أول جملة ستقولها لو وقفت على المنبر تخطب في يوم الجمعة؟ فرد سريعاً دون تفكير سأقول:
اتقوا الله في كعبورة،
وفي آخر مرة التقيت به كنت أقود سيارتي وأسير بها في عجلة من أمري، فأشرت له بيدي ورد التحية دون نية، لأجده بعدها قد اشتكى لبعض المقربين منا، وقال إنني لَوّحت له بيدي بغضب، ونعتني "بالسوقي"، ونسى -في لحظة محت لحظات سابقة- حق الجيرة والسلامات الحارة، وعند لقائي به معاتباً إياه، ضحك بلا مبالاة،
وقال لي: أنت لا تطاق!
لا حول ولا قوة إلا بالله!
ولا إله (إن) الله!
كما تعود أن يقولها.
إنه كعبورة وكعبرته.