وأنا في صدر شبابي الأول بالمرحلة الجامعية كنت أقف أمامها، معارضاً لها طول الوقت كلما طرح أستاذ المادة موضوعاً للنقاش.
تُبادر هي بعرضِ أفكارها وتناقش بذكاءٍ وفهم، ومن واقع خلفية ثقافية لديها لا بأس بها، وعندما تنتهي لا يملك أحد من دفعتنا الجرأة للتعقيب عليها إلا أنا، أقف بمكاني بعد أن يأذن لي أستاذ المادة، وأخاطبها مُوجِّها كلامي إليها أمام الجميع، بقاعة المحاضرات، بأنني أختلف معها في بعض ما ذكرته، فيما أثير من نقاش حول موضوع المحاضرة، فتتعجب مني وتسألني: "كيف"؟ فأرد عليها وأقارعها الحجة بالحجة، وأفحمها تماماً برغم أنها الأولى على الدفعة كل عام ،لكن يكمن السبب وقتها في أنني تعلقت بها، وجعلتها قضيتي وشغلي الشاغل، وكأني خُلقت لأعترض عليها في كل خطوة تخطوها.
إذا تولت مسؤولية أحد أنشطة اتحاد الطلبة أقف لها بالمرصاد في بعض اللجان، وفي التدريب الميداني كنت أفتعل معها الأزمات إلى أن جاءت إليَّ في يوم بمنتهى الغرور وقالت لي: "هناك لقاءٌ شعري سيجمع الموهوبين بكتابة الشعر والجميع إناث، ولا يوجد رجل واحد يشارك معنا، وكسراً لهذا أعرض عليك مشاركتنا لأني استشعرت فيك شيئاً ما"، ودون تفكير مني قبلت، إلى أن حان وقت اللقاء، وكنت الشاب الوحيد وسط خمسٍ من الفتيات.
بدأت كل واحدة منهن تستعرض ما كتبت، وتقرأ من ورقة أمامها شريطة إلقاء عمل أدبي واحد، إلى أن جاء دور تلك الفتاة التي تشغلني، وبكل ثقة وشموخ وجمال يكسو وجهها البشوش قَرأتْ ما لديها، وكان موضوعها عن الأقمار الصناعية وقتها.
ثم جاء دوري فَطَلَبتْ مني القائمة بالإشراف على هذا اللقاء البدء؛ ففوجئن جميعهن بأنه لا وجود لورقة معي أقرأ منها؛ فانطلقت بذاكرتي يومها شعراً وإلقاءً وفصاحة، ثم طلبت مني المشرفة المسؤولة أن أقرأ عملاً آخر، إلى أن ألقيت شعراً لمرتين، وكنت استثناء هذه الندوة، وفزت بها، وعندما هممنا بالخروج نَظرتُ إليها باستعلاء رافعاً رأسي ولمحت نظرة الضعف بعينيها.
ظللت أمارس معها دور المشاكس المعارض لها دوماً، حتى جئت بالسنة الثالثة قبل البكالوريوس، وأعددت لها رسالة غرامية من ست صفحات لقراءتها؛ ثم التقيت بها في اليوم التالي، وضحكت معها على غير عادتي، ومددت لها يدي بالرسالة فسألتني: "ما بها"؟
ففهمتُ أنها تريد جواباً شافياً، ودون مقدمات.
قلت لها حرفياً: "أريد خطبتك"، فرفضتْ طلبي بأدب؛ معللة سبب الرفض بأنها ستكمل دراسة البكالوريوس، ثم بعد ذلك الماجستير والدكتوراة؛ فأدرت ظهري ومشيت، وأنا أرى حلمي لم يتحقق بالوصول إلى هذه الفتاة.
والآن كلما تذكرت أيام مناوشاتي معها أضحك، وأقول: ليتها قد أخذت الرسالة الملونة ذات الست صفحات حتى يذيبها ما كتبته من صميم مشاعري تجاهها في ذلك الوقت، ولكن "النصيب"!
فتاة احتكمت لعقلها دون قلبها...
وشاب احتكم لقلبه قبل عقله...
انعكست الآية!
واستمرت الحياة...
وبقيت الذكريات تداعبني.