وأنا أحتسي كُوبي المُفضل من الشاى الأحمر بالنعناع في المقهى المجاور لي، جالساً مع بعض الأصدقاء نتجاذب معاً أطراف الحديث، استرعى انتباهي رجلٌ كبيرٌ يجلس بجوارنا،
يبدو عليه أنه على مشارف السبعين من عمره، رَث الثياب، أشعث الشَعر، تُخبئُ عيناه هَماً وحُزناً خلف نظارته الطبية القديمة بالية المنظر، نَظْرَته تحمل آلاماً وأوجاعاً، ويقبع فيها شقاء السنين.
سمعته يسأل مَنْ بجانبه عن عملٍ يُرزق منه، ويَقيه شظف العيش، ومُر الحاجة والسؤال.
فسأله أحدهم عن عمله فرد عليه قائلاً: إنه "طباخ" وفي السابق سافر كثيراً، وكانت له صولات وجولات بالعالمين العربي والغربي، ومكث لمدةٍ طويلة بفرنسا وإيطاليا، ولكن شاءت الأقدار أن يرجع لبلاده خالي الوِفاض لا يملك قوت يومه.
انفض الناس من حوله بعد انتهائهم من طعامهم وقهوتهم، وانصرفوا وتركوه ولم يهتموا لأمره، وبقي هو مع نفسه حبيساً لذكريات الماضي، وبقيت أنا على مقربةٍ منه أتابع تأمله وألمه الواضح على ملامح وجهه المرهق، ثم اقترب فجأة من صبي بعمر الزهور يحمل خبزاً، وتحدث معه بصوتٍ خافت طالباً منه رغيفاً، أعطاه الولد ما طلب وانصرف، وبقي الرجل ليُكمل ذكرياته متناولاً رغيف الخبز بنهمٍ شديد.