كتبت منذ فترة قصيرة مقالة عن الوحدة التي تكابدها النساء في المدن الكبيرة، وقدمت فيه قراءة لنموذجين تناولا هذا الموضوع في السينما الأمريكية، وعندما شاهدت بالصدفة منذ يومين مسلسل بعنوان پينلوپي على منصة نتفليكس، آرتأيت ان اكتب هذه المرة هنا عن موضوع العزلة
الوحدة والعزلة يتماسان عند الانسان في انفراده في المكان الذي يأهله، لكنهما تختلفتان في المعنى، فالوحدة هي حالة شعورية تعتري الإنسان حتى وأن كان بين الجموع، أما العزلة هي حالة يختارها الانسان أو تفرض عليه قسرًا لاسباب عديدة منها الإجتماعي أو السياسي
تغنى الشعراء والادباء والفلاسفة في مثالب العزلة التي تهذب النفس، وتجعلها أقرب الي كينونتها الابداعية، ومنهم من يرى أن لا غنى عنها للمبدع، مثلما كتبت فيرجينيا وولف
“لو كان بوسعي القبض على ذلك الإحساس، لفعلتها؛ ذلك الشعور بترنُّم العالم الحقيقي، بما أن المرء منقاد بالعزلة
والصمت عن الانغماس في هذا العالم.
بينلوبي فتاة في السادسة عشر من العمر، تقرر ان تهجر حياة المدينة، وتتجه نحو الغابة لتعيش بمفردها
نقابلها في بداية الاحداث في حفل بمخيم برفقة زملائها، لكن كل واحد منهم يرتدي سماعة الأذن ويرقص بمفرده ، كل بمعزل عن الأخر، تتوقف عندما ترى ذئب بري يراقبهم من بعيد، هي وحدها تراه او هكذا يتراءى لها، تجد نفسها منعزلة عن الأخريات لا تختلط في نشاطتهن، تخرج في الصباح الباكر لتتنزه بمفردها، وبعدما تتلقى رسالة من والدتها تطلب منها العودة للمنزل، تقرر فجأة الانطلاق في رحلة لا تعرف وجهتها.
تتشابه حكايتها مع رواية في البرية
into the wild
والتي قدمتها السينما في فيلم يحمل نفس العنوان للمخرج شون بين، عن شاب تخلى عن حياة الترف والحضر، وقرر بناء حياة له في البرية. مع تطور احداث المسلسل سنعرف انها بالفعل قد قرأت تلك الرواية التي اثرت عليها وقررت ان تسلك مسلك بطلها ، فذهبت دون ادنى معرفة بالبيئة التي على وشك ان تأهلها، وما هي بصدد مواجهته
براءة هذه الطفلة هي العامل الاساسي لجذب انتباه المشاهد، تجعل المشاهد يقلق بشأنها كما لو كانت ابنته وهو يراها تنطلق بكل عفوية نحو مصير مجهول وخطر محدق، ليس معها سوى عدة تخييم بسيطة، وكتاب عن كيفية النجاة في البرية
تتوقف امام احدى الاشجار المعمرة، تحتضنها وتطلب منها حمايتها في ليلتها الأولى، وتنام في احضاء هذه الشجرة، ثم تبدأ تدريجيًا في التعرف على البيئة المحيطة بها، عن كيفية تطهير المياه، وكيفية اختيار الاعشاب والثمار لتقتات عليها، تقابل اثناء رحلتها اشخاص يقدمون لها العون، لكنها لا تبوح لأي منهم عن اسمها الحقيقي، فهي ترغب بشدة في الابتعاد عن حياتها السابقة، لذا ترسل رسالة لوالدتها تطلب منهم عدم البحث عنها.
كان من الممتع رؤية هذه الفتاة وهي تحاول البقاء وخلق عالم خاص بها، تحاول وتفشل وتحاول من جديد، كما لو كانت عيد اكتشاف ذاتها من جديد، ستتحول من الفتاة التي لا تعرف كيف تشعل نارًا الي شابة صغيرة تبني بيتًا صغيرًا لها فطط وسط الغابة.
يعيب النص الذي قام بكتابته الممثل والمنتج مارك دوبلاس بالمشاركة مع مخرجة العمل ميل اسلين ، انه يعمل تقديم خلفية تاريخية للشخصية، والدافع وراء ابتعادها عن عائلتها والقيام بهذه المغامرة الخطيرة.
كما لم تك هناك تحديات كافية امام الفتاة في كل حلقة للتغلب عليها، فأقتصر جل التركيز على كيفية بقائها في هذه البيئة الجديدة عليها
لكن ما سبق لا يعني ان العمل لا يتمتع بقدر من الجمال، وهدوء الإيقاع الذي تنساب به الاحداث، وهذا من تأمل المكان الذي يعد شخصية اساسية فيه.
استوقفتني إحدى الحلقات، وهي الحلقة الرابعة، بعدما تعرضت بينلوبي لهجوم الدببة البرية اللي دمرت اشيائها، وتقرر بعدها الذهاب لاقرب مدينة لابتياع مؤن اخرى، تقابل في طريقها إمراة تعيش في اعالي الاشجار لانها من حماة البيئة، وتعتصم فوقها لمنع السلطات من قطعها.
إذا كان العمل موجه ضمنياً الي اهمية الحفاظ على البيئة، والغابات لانها ملاذ روحي للإنسان، فهذه الحلقة تحديدًا تلقي الضوء على العالم الخفي والروحاني للأشجار، والتواصل فيما بينهم عن طريق الجذور، فهي تشبه في هذا تمامًا الإنسان وكيف تنتقل
اليه تجارب اسلافه عبر السنوات، سواء جيداً كان أو سيء.
شخصية المراة التي قامت بادائها الممثلة كريشا فيرتشايلد ، هي بمثابة المعلمة الروحانية التي تقابل البطلة في طريقها لتنقل اليها خبراتها في الحياة، لذا موضوع هذه الحلقة متماسك للغاية من نوع الشخصيات، وعلاقتها بالبيئة المحيطة وكذلك بانعكاس كل ما سبق على الخبرات الانسانية في الحياة
الموسيقى التصويرية كانت من ضمن القرارات الابداعية البارزة للمخرجة في هذا العمل، حيث اختارت استخدام الموسيقي ذات الطابع الاثيري بصوت انثوي يشبه الي حد كبير طابع الاغاني الكلتية للمغنية الايرلندية إينيا ، فخلق هذا حالة من التناغم الهادىء مع طبيعة رحلة الفتاة، وكذلك الطبيعة البرية للمكان
بما ان العمل هو عن رحلة نضج لفتاة، فعبء التمثيل يقع بأكمله على كاهل الممثلة الشابة ميجان ستوت، تجذب براءة ملامحها المشاهد وتحثه على التعلق والاهتمام بمصير الشخصية التي تلعبها، وكذلك ردود افعالها الساذجة والبريئة تشبه سذاجة الطفل عند أقدامه على التجربة بروحه الطفولية، وإذا ما شاهدناها في اول حلقة ثم الأخيرة سنلاحظ التغير الذي طرأ عليها من اكتسابها لخبرات جديدة
يقوم الاخوان مارك وجاي دوبلاس بالمشاركة في تأليف وانتاج المسلسل، وهما من صناع السينما المستقلة في امريكا، وانا متابعة لأعمالهم وانتظرها بشغف، فهم يعملون خارج نطاق السينما السائدة، وينتمون الي حركة مستقلة تدعى المامبلكور، خرج منها مخرجين مشهورين مثل جريتا جيرويج ، ونواه باكمباخ، وتعتمد هذه الحركة الابداعية على المجهودات الذاتية لصانعي الافلام، بامكانياتهم البسيطة، ومشاركاتهم في المهرجانات المستقلة، وهو طريق يحتاج الي مجهود وتفان مضاعف لكي يستطيع المخرج او المؤلف ان يحقق بصمته ويوجد لنفسه مكانة وسط صناع السينما
المستقلة
بالنهاية اتمنى ممن يشاهد هذا العمل الا يضعه في مقارنة مع فيلم شون بين ( في البرية) ، فهذه رحلة نضج لفتاة من جيل أخر ، والعمل يدعو الي التأمل في دوافعها ، ودوافع هذا الجيل من الشباب