يبتسم الرجل العجوز وهو ينظر إلى حفيده فى حنان، تتراص حروف الاسمين العلمى والتجارى للعقار الجديد بجوار صورة الرجل على اللافته الضخمه فى مدخل القاعة.
يدخل الخبير الأجنبى مبتسما، يلقى محاضرته عن نتائج العقار الجديد مدعومة بمنحنيات الحياة. تتحدث منحينات الحياة الإحصائية-الشبيهه بالرسوم البيانية لأسهم البورصة-عن نفسها دون تعليق.
يقف منحى حياة المرضى المشاركين فى التجربة السريرية للعقار الجديد صامدا لفترة أطول من المعتاد، بدون حدوث وفيات بين متلقى العقار تأخذ المنحنى إلى الأسفل. يتجلى العلم فى أوج جماله وبهائه وسحره فى كل رقم من نتائج الدراسة السريرية، استطاع العقار الجديد تحقيق معدلات إستجابة عالية و زاد من متوسط الحياة بدون انتشار أو تسارع فى نمو الورم الخبيث بأرقام غير مسبوقة.
عبر جزىء الدواء هذا ثلاث مراحل من التجارب السريرية و سنوات قبلها فى أنابيب الاختبار قبل أن يفصح عن نفسه ويثبت جدارته أمام العقار المصدق عليه عالميا.
الأمل، العقار الجديد الذى يطيل متوسط العمر المتوقع لمرضى هذا النوع الشرس من السرطان بحوالى أربعة أشهر. يستمر المريض فى تناول العقار حتى يفقد الورم الإستجابه للعقار او حتى حدوث آثار جانبية غير محتملة..
نسيت أن اخبركم، التحليل الجينى التنبؤى اللازم قبل استخدام العقار تكلفته سته آلاف دولار.
تكلفة العقار فى الشهر الواحد حوالى 120 ألف جنيه، ومتوسط فترة العلاج بين 12-14 شهرا.
والعقار غير شافى.
1. ديكنز فى ميدسكيب:
“It was the best of times, it was the worst of times”
تصدر الاقتباس السابق-من مقدمة رواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز- مقدمة مقال فى عام 2016 على الموقع الطبىMedscape .
ما الذى أتى باقتباس روائى فى مقدمة مقال طبى؟ لأننا لا نجد تعبيرا أقوى عن ما نعيشه و نعانيه.
نحن نتعرف إلى آليات عمل السرطان لأول مرة فى التاريخ، نستكشف علاقته بجهاز المناعة وتكوينه الجينى ومسارات محفزات نمو السرطان داخل الخلية. نطور العقاقير القادرة على استهدافه بذكاء كرصاصة القناص، نتتبع خريطته الجينيه ونهاجمها بتركيبتها الفريدة داخل كل انسان فيما صار يعرف ب”التطبيب الشخصى personalized medicine -"
لم تعد أورام الرئة على سبيل المثال كومة واحدة متجانسة، أصبح بإمكاننا تصنيفها إلى: أورام ذات طفرات جينيه مميزة، أورام غنية مناعيا، واورام غير ذات بصمة واضحة. بداخل كل نوع تتشعب أنواع اخرى ولكل نوع عقار خاص يتعامل معه. كأننا نخيط لكل إنسان علاجه على مقاسه الجينى والمناعى. سرطانات الجلد المتقدمة تشفى حاليا بفضل العلاج المناعى، تنخفض وفيات السرطان فى الولايات المتحدة لاول مرة فى التاريخ بنسبة15 %.
منذ بردية إدوين سميث، المدونه التاريخية الأولى لوصف وعلاج السرطان، لم نعرف أياما كهذة.
تلك هى أفضل الأيام .
العقاقير سابقه الذكر نادرا ما تشفى تماما من المرض إلا فى حالات محددة، ليس كل ما يعمل بإبهار على المستوى النظرى أو المعملى يحقق نفس الإبهار على مستوى التجارب السريرة ولا على مستوى الممارسة الطبية اليومية. تتحسن النتائج بلا شك فى خطوات صغيرة متراكمة فيضيف كل عقار جديد لمتوسط العمر بضعه أشهر. لكن مع آثاره الجانبية الصحية على المريض، تأتى السمية الاقتصادية financial toxicity"" كأثر جانبى نادرا ما يتم تناوله.
السمية الإقتصادية لعقاقير علاج السرطان هى الصفعة التى يتلقاها الجميع، بدءا بالقائمين على النظام الصحى، المطالبين بقياس ما لا يمكن قياسه،ثم الأطباء المطالبين بإتخاذ قرار مناسب للمريض دون إفلاسه ماديا، وصولا إلى المرضى وأهليهم، من تتهاوى حيواتهم بفعل السمية الاقتصادية لعقاقير السرطان الحديثة قبل أن تتهاوى صحتهم بفعل المرض وفى النهاية لايبلغون الشفاء فى كثير من الاحيان.
تلك هى أسوء الايام.
2. رطل من لحم أنطونيو:
"ما لم تقله السلطات الصحية هو أن العلاج المناعى سيكون فعالا معى بشكل كبير، فعال مع كل الرجال العجائز المسئولين نسبيا عن السرطان الذى أصابهم. لكننا فى النهاية عجائز قد اقتربوا من الموت على أى حال. لن يسترعوا انتباه الميديا ولا نشطاء حقوق المرضى كما يسترعيه سرطان الأطفال أو الشابات الصغيرات. ترى السلطات الصحية أن العلاج المناعى فى حالتى غير شاف وما دام كذلك فهناك من هو أكثر استحقاقا منى بالعلاج، العلاج المناعى سيطيل من عمرى قليلا، هذا يعنى وقت أكثر مع ابنائى، مع أحبائى، وقت أكثر على الأرض. فقط إذا كنت أملك ثمنه"
أدريان جيل- صنداى تايمز- الحادى عشر من ديسمبر 2016.
كان هذا المقال الأخير لصحفى وناقد طعام بريطانى Adrian Gill ، متحدثا عن تجربته مع سرطان الرئة ومنتقدا النظام الصحى البريطانى الحكومى NHS . نعم سيدى السلطات الصحية التى توجه لها سهام النقد هنا هى السلطات الصحية البريطانية التى رفضت توفير العلاج المناعى باهظ الثمن لمرضى سرطان الرئة المتقدم وأصرت على الإستمرار فى العلاج الكيميائى التقليدى.
هل تعلم كم مستحضر علاجى بإمكانه العبور من مراحل البحث الأولى إلى مراحل البحث الإكلينيكى؟ هل تعلم كم مستحضر يرتقى بعد ذلك لصفه العقار الفعال و يثبت جدارة علاجية؟ هل تتخيل كم الأموال التى يتعين إنفاقها من أجل الظفر بعقار واحد جديد وتطويره وطرحه بشكل تجارى؟
الطرح السابق ما هو إلا جزء من كل، لمحة صغيرة من معادلة عملاقة لتحديد سعر الدواء. تلعب العوامل السابقة مع حق الملكية الفكرية دورا كبيرا فى تحديده وتتداخل مع عوامل أخرى حتى يتكون الرقم الشبح فى النهاية وتتكدس إلى جواره الأصفار. تضربنا الآن أرقام هائله لم نسمع بها من قبل، تحطم الجرعة الواحدة حاجز المائة ألف بسهوله، يتكلف المريض الواحد أكثر من المليون جنيه أو دولار أو استرلينى.
لا يمكن إجبار مصنعى الدواء على خفض سعره تحت أى ظرف إلا فى أضيق الحدود وداخل برامج دعم محددة. غير ذلك فنحن مجبرين على مطاردة الشبح ومحاولة استئناسه.
كل ميزانيات العالم محدودة، وصانع القرار عليه أن ينظر إلى المشهد بعين طائر. كم مريض سكتة دماغية يمكن شفائهم تماما بنفس تكلفة علاج غير شاف لمريض سرطان واحد؟ هل من الأولى ضخ 50% من الميزانية فى الطوارىء والحوادث ليعود ضحاياها إلى المجتمع أفرادا كاملين فاعلين أو بدرجات مقبوله من الإعاقة أم ضخ 40% من الميزانية لإطالة عمر مرضى السرطان بضعة أشهر؟
وحتى بعد تحديد ميزانية معقولة لمرضى السرطان، تتحور المعادلة ساعتها إلى "مقابل شهرين فى حياه س..سأحرم على إثرها ص و ج و ك و ع من علاج قد يؤدى للشفاء التام أو نتائج أفضل من نتيجه العقار على س...شهرين من حياة س تساوى ثمانية اشهر من حياه ص و عشره اشهر فى حياه ج. إعطاء أولويه للبعض على الآخر لا يمكن تجنبه أبدا،حتى فى أشد دول العالم ثراء. حدود الإنفاق على المريض الواحد مع ترتيب أولويات الرعاية الصحية لا مفر منه. الإنسانيه هنا ليست سهلة، إذا قادتك إنسانيتك اليوم لدعم الجميع فسينتهى الأمر بالإفلاس التام بعد شهور، و ستقف عاجزا عن مساعدة الجميع..أيضا! عليك إبقاء الإنفاق عند مستوى معين لضمان استمرار الخدمات الأساسية على الأقل.
يتصاعد الجدل حول العالم، تقدم الجمعية الأوروبية لعلاج الأورام مقياس استرشادى لربط الفاعلية العلاجية للدواء بقيمته ومن ثم تصنيف العقاقير إلى عقاقير ذات أهمية قصوى و عقاقير أقل أهمية. يتم التصنيف بناء على الأثر العلاجى للعقار، فتتصدر العقاقير المسببه للشفاء التام قائمة الأولويات ، تليها العقاقير التى تقدم زيادة واضحة فى متوسط العمر الكلى من وقت التشخيص حتى الوفاة، ثم تتذيل العقاقير التى لا توفر للمريض إلا فائدة هامشيه فى متوسط وقت السيطرة على الورم بدون إنتشار أو زيادة فى الحجم.
European society of medical oncology (ESMO): Magnitude of clinical benefit scale.
تحذو جميعات علمية أخرى حذو الجمعية الأوروبية و توفر العديد من الوسائل المساعدة لصانعى القرار فى تصنيف العقاقير تبعا لأهميتها وفاعليتها مثل الشبكة القومية الأمريكية لمراكز الاورام NCCN وغيرها.
يسهل أمر بعض العقاقير ذات الفعالية الهامشية أحيانا حين يوجد بديل الكلاسيكى ذو قدر معقول من الفعالية. لكن المعضلة الأكبر حين يكون العقار فعالا ولكنه غير شاف فيسيطر على الورم دون نمو أو انتشار لفترات طويلة ولكنه لا يمحوه كليا. أو فى حالات كسرطان الجلد الملون حيث لم يعد للعلاج الكيميائى دور يذكر، هنا يقف العلاج المناعى ومجموعة أخرى من العلاجات الجينية فى ساحة خاليه وبدرجه عاليه جدا من الكفاءة لا يمكن مضاهاتها بفعالية العلاج الكيميائى المحدودة فى تلك الحالة، ولكنه يكلف أموالا يمكن بسطها من هنا وإلى القمر.
فى محاولة لحل المعضلة، يحاول علم أقتصاديات الصحة إيجاد إجابة من خلال دراسات الجدوى الاقتصادية للدواء cost-effectiveness ، هل فائدته تستحق ما سينفق عليه؟
فى محاولة قياس ما لا يمكن قياسه، يستخدم علم أقتصاديات الدواء وحدات قياس عديدة لتقدير مدى الفاعلية الاقتصادية للعقار. احداها واهمها واكثرها توظيفا هى ال QALY (Quality adjusted life year).
إذا كان العقار الجديد قادر على إطاله متوسط العمر بمقدار العام، كيف ستكون جودة الحياة وشكل الحياة فى هذا العام؟ هل سيتحسن المريض وتنخفض احتياجاته لباقى الخدمات الطبية؟ أم سيعانى من آثار جانبية تجعله حبيس المستشفى أكثر العام الذى سيعيشه؟ هل سيحتاج ادوية مساعدة؟ ما حجم الإنفاق الحكومى فى بلاده على الخدمات الصحية وما مقدار إسهام الفرد فى الدخل القومى؟ وما مدى استعداد دافعى الضرائب لإنفاق أموالهم على الفرد الواحد؟
كالى QALY تحاول ان تجيب عن سؤال صانعى القرار، هل سأتحمل تكلفة العلاج أم لا؟ لكن كالى مرتبطة أيضا بمعدل الإنفاق الحكومى على الصحة، والدخل القومى ككل. "كالى" هنا لا تثمن شهرين إضافيين فى حياة إنسان بأنهما يستحقان دفع أموال دافعى الضرائب، لكنها الوحدة التعبيرية ل"قيمة" الشهرين.
وحتى مع كل ما سبق، يظل السؤال مخيفا ومحيرا. يحتج المرضى على رفض الحكومات تمويل العقاقير باهظة الثمن حتى مع كل الحسابات السابقة. مهما كانت وجاهتها و فصاحه حجتها، تتلاشى تلك الحجج أمام رغبة إنسان واحد يود البقاء مع أسرته أكثر قليلا. بالعودة إلى "أدريان جيل"، وافقت الحكومة البريطانية بالفعل على تمويل العقار المناعى وإدراجه ضمن خطوط العلاج الممولة حكوميا، لكن كان ذلك بعد وفاة السيد جيل بشهر، مفلسا ومدينا بسبب نفقات العلاج المناعى.
3. القابضون على الجمر:
تصحو فى الصباح بعد يوم علمى رائع، تتوجه إلى عملك فى حاله من النشوة. تجلس لتناظر مرضاك و تنفذ مهمتك فى نقل المعرفة من غرف النقاشات الأنيقة إلى أرض الواقع. أن تترجم ما تعلمته إلى أيام و شهور تضاف إلى حيواتهم. وأن تطيل فتره بقائهم وأهليهم كعائلة واحدة لأقصى ما يمكن.
ستدخل بهدوء ، بملابس ريفية بسيطة و عينان لاتفارقان الأرض. عند أول مره ستناديها باسمها ستدعو لك بالسعادة، كأن المفترض أنها بلا إسم. حين تسالها عن أحوالها ستقول الحمد لله كإجابة موحدة عن كل سؤال. ستخبرها بحالتها و ستحمد الله أيضا و إن دمعت عيناها. يتعلق ابنها بثوبها فى لحظة ما و ينظر لك و يضحك، وحين تسأله عن إسمه سيتوارى خجلا وترد هى ثم تنظر إليه نظره طويله مفادها أن حياتها لا تعنيها بقدر ما يعنيها هذا الصغير المتشبث بالثوب.
شهرين إضافيين لمتوسط العمر نتيجة معقولة فى مثل حالتها. الشهرين الإضافيين تكلفتهما أكثر مما تكسبته هى وعائلتها فى أربعة عقود. لا يوجد تأمين صحى حكومى أو خاص سيغطى تكلفه علاجها. ربما بعض الجمعيات الخيرية بإمكانها المساهمة بشكل كلى أو جزئى، لكن قوائم إنتظارها طويلة جدا، قد لا تحيا حتى يدركها الدور.
تفتح فمك و توشك على إخبارها أن هناك دواء ما سيساعدها قليلا، تنظر إليها ثم إلى أهلها ثم يستقر بصرك على الطفل المعلق بثوببها وتفكر. هل أخيرهم بين الموت و خراب الديار؟ أم الموت و خراب الديار مع الإحساس بالعجز و التقصير الممزوج بالإهانه؟؟ أم يكفيهم الموت فاجعة فلا أزيد عليه؟
القرار هنا ليس طبيا فحسب ،العامل الإقتصادى هنا سينهش تفكيرك بشكل مروع. سواء كنت تعمل بداخل مؤسسة لها موارد محدودة و سياسات إنفاق لا يمكن أن تلومها عليها بشأن تنظيم وصف الأدويه للمرضى، أو إذا كنت تعمل فى قطاع خاص يتحمل المريض نفقات العلاج او جزء منها. ما ستقوله سيترتب عليه إصابتهم بإحدى درجات السمية الإقتصادية لعلاج السرطان. تحاول العديد من الجمعيات العلمية وضع مقياس موحد لدرجات السمية الإقتصادية. ربما أكثرها قبولا هو ما تم نشره فى مجلة علاج الأورام Journal of clinical oncology (JCO) عام 2014. يصنف الباحثين درجات السمية الإقتصادية للعلاج إلى أربع درجات: الأولى حين يضطر المريض لتغيير نظام حياته و إلغاء النفقات الخاصة بالعطلات مثلا، الثانية حين يضطر لإنفاق مدخرات تقاعده أو لبيع أسهم أو سندات كان يدخرها لوقت حاجة، الثالثة حين يضطر إلى الإقتراض من أجل نفقات العلاج او إذا اقتطع نفقات علاجه من أساسيات حياة أسرته كالطعام والتعليم، أما الرابعة وأشدها فداحة فهى حين يبيع منزله ويعلن إفلاسه نتيجه لتكلفة العلاج.
فى خلال سنوات عملى، رأيت الدرجات الأربع تتحقق فتأخذ عائلات ميسورة إلى ضنك العيش، و يفقد أبناء صغار مدخرات أبيهم وسكنهم على أمل علاجه. ومع طول فترة العلاج و تبدد الأموال ينقطع المريض عن علاجه لفترات طويلة، فيفقد العلاج فعاليته القائمة على مدى انتظام المريض فى تلقيه ونجد أنفسنا واقفين فى مربع أسوأ من الصفر، بعد أن عجز المريض عن استكمال العلاج و أصبح معدما.
الخيارات المتاحه أمامى هى: أن أخبر أهل المريض بوجود فرصة للعلاج مع شرح قيمته الحقيقية موضحة أنه لن يؤدى إلى الشفاء بأى حال من الأحوال. ألقى الصراع من رأسى إلى قلوبهم التى ستشتعل بالحيرة بين أن يفلسوا تماما و يموت مريضهم بعد بضعة أشهر أو يلجئون للعلاج المدعم حكوميا ويموت مريضهم بعد أشهر أقل. بعض الناس يأخذون قرار الإنفاق حتى آخر قرش فى بيوتهم كى يتجنبوا شعور الذنب فى كل لحظة أنهم لو فعلوا كذا لكان الأمر أفضل. قرار على جسامته يقدم عليه كثيرون حتى لو عارضت انت كطبيب قرارهم رافضا إضافة خراب الديار إلى الموت.
أو يتخذون القرار الآخر، وفى بعض الاحيان ليسوا هم من يتخذونه بل حالتهم المادية مقابل سعر الدواء الذى لا تستطيع أعلى الفئات دخلا مجاراة جنونه. فى تلك الحالة ومع كل صرخه من المريض، سيجلدهم الضمير و الخوف و القهر معا..ماذا لو كنا ؟ ألم يكن سيكون أفضل؟ ألم نخطىء او نقصر فى حقه؟ ألا يشعر بناأاحد؟ ومع افراقه سيغدو الوضع أكثر جنونا..فماذا لو بقى معنا شهرا اخر؟ ماذا لو..ماذا لو... سيتوارون من انفسهم باقى العمر خجلا كى لا يتذكروا انهم لم يشتروا "الغالى" حتى وهم يعرفون جيدا أن مريضهم سيموت على كل الاحوال.
قد أتخذ اختيارا يبدو اسلم، أن لا تخبر المريض ولا اهله بوجود العلاج باهظ الثمن. لكنك من داخلك ستظل تعرف أن هناك شىء ما فى مكان ما بإمكانه مساعدة المريض نسبيا. وأن الحائل بينه و بين المساعدة هى مجموعه من الحسابات الإقتصادية البحته التى أعطت للشهر سعرا يتعدى ما ربحه المريض طوال حياته.
4. حتى الكريسماس فقط:
ربما بإمكانى سحب كرسى و الجلوس بهدوء ثم شرح الموقف: "سيدتى، كما ترين فإنك تعيشين فى منطقة من العالم لا تسهم بما يكفى فى صنع الحضارة الإنسانية، الدخل القومى لبلادك لا يكفى لتقديم رعاية صحية مقبولة بالنسبة لك، كما أن الادوية رخيصه الثمن على وشك الإنقراض نظرا لعدم جدوى تصنيعها إقتصاديا، وكما تعرفين فهناك مشكلة عالمية فى المورفين وقصور شديد فى تصنيعه لأغراض طبية، إضافتك يا سيدى للناتج القومى لبلادك و الناتج العالمى عند حسابها لم توفر لك عدد كاف من الساعات محتمله الجوده المعيشية و بالتالى فإن ال(كالى) خاصتك مرتفعه التكلفة للغايه. الإنفاق الصحى عليك ليس ذو جدوى، بضع ساعات أو أعوام فى حياتك لن تؤثر فى عجله الإقتصاد فى شىء. أتمنى أن تتفهمى كلامى جيدا لأن هذا هو الواقع"
لا اود الإنزلاق إلى شعارات اشتراكية، لن اشبه شركات الادوية بشيلوك الذى يطال انطونيو برطل من لحمه لقاء دينه. لكنى لا أعلم ما الحل، أقف ثانية على حافه ما أفهمه ولكنى لا أتفهمه، لا أتصالح معه. ما وضعنى هنا هو إيمانى بقيمة الحياة وبأن الثانية تساوى واليوم يستحق المحاولة. وأجد نفسى فجاة مطالبه بأن أؤمن وأقتنع وأنفذ النقيض تماما حين أنظر إلى نفس وحدات الزمن انها بلا قيمة، أو انها لا تستحق كل هذه القيمة. لا أحد يعرف ما المخرج ولا أنا أملك حلولا كى أطرحها.
نتعلم أن الخدمة الطبية يجب أن تتمحور حول تطلعات وتوقعات المريض، فأتذكر الزوج الأمريكى الشاب الذى طرح حملة جمع تبرعات لزوجته التى تعانى من سرطان قولون متقدم فى مراحله الأخيرة كى يوفر لها خط علاج جديد باهظ الثمن. كان يعلم جيدا ان العقار الجديد لن يشفيها لكنه سيطيل عمرها لشهرين ونصف، أراد الزوج ان تبلغ زوجته الكريسماس ليحتفل معها به لمرة أخيرة. أمنية بسيطه جدا لكن سعر العقار يقف حائلا بيننا جميعا وبين تحقيق تلك الأمنية التى ولدت ذابلة.
لأن علم إقتصاديات الصحة-الذى أحترمه بالمناسبة- أخبرنا أن تلك السويعات قيمتها المادية أكبر من قيمتها الإنسانية.