حين دَخَلَتْ عليها ابنتها ذات الثلاثة عشر عامًا، صرخت مما رأته .. فقد كانت تقف منحنية الظهر متكئة بكوعها على الحوض واضعة كفها على فمها لتكتم آهات تتصاعد من أعماقها، بينما يدها الأخرى تحاول احتواء تلك الآلام التي تعتصر بطنها، ودفقات الدم تندفع من بين ساقيها متخذة طريقها بطوال الطرقة بين الحوض وباب الحمام!
أشارت إلى ابنتها أن تقترب منها .. وبصوت واهن تختلط فيه الكلمات بالألم همست لها: انزلي اندهي لطنط سماح بسرعة.
في ثوان معدودة كانت ابنتها وسماح جارتهم تقفان بجوارها، عندها ضربت سماح على صدرها وهي تصرخ:
ـ يا مصيبتي هو عملها .. والله لابلغ عنه .. كده دمك اتصفى ..
= معملش حاجة يا سماح، دا أنا وقعت .. محمود غلبان بيشقى علشان العيال ..
- هتفضلي تداري عليه لحد ما يجيب أجلك.
في صالة الطوارئ كانت سماح تجري في كل اتجاه .. تصرخ: دكتور بسرعة إلهي يستركوا .. دمها اتصفى، ثم جرت واختفت في ممر شبه معتم وعادت، وهي ما زالت تجري .. ومن خلفها تسير الممرضة، التي ألقت نظرة خاطفة، ثم قالت:
ـ روحي اعملي لها تذكرة ..
= حاضر: بس دكتور يشوفها بسرعة الست بتموت.
على مكتب الاستقبال وقفت سماح أمام الموظف وهي تحسبن: (منه لله .. حكمتك يارب .. رزق وجه يقتله ويقتلها)
ـ الاسم إيه؟
= اسمي أنا ياخويا؟
- لأ .. اسم المريضة ياست
= آه .. سعاد .. سعاد عبد الله .. اللي ما شافت ريحة السعادة يا كبدي ..
- السن كام؟
= والنبي ما اعرف .. قول كدا يجي خمسة وتلاتين ..
بعد أن أعطته كافة البيانات ـ بحسب معلوماتها ـ أخذت تذكرة الكشف ودخلت غرفة الاستقبال، كانت سعاد ممددة هناك على سرير حديدي معلق بذراعها الأيمن (كانيولا) موصول بها محلول ملحي يتدلى من حامل بجانب السرير .. ينقط ببطء، وهي غائبة عن الوعي، بينما ابنتها سلوى تقف بجوارها ودموعها تغرق وجهها .
سأل الطبيب سماح :
- هي في الشهر الكام
= تقريبا الخامس
- النزيف كتير .. نعمل سونار الأول وبعدين نقرر ..
في دقائق معدودة كانت سعاد قد نُقلت لغرفة الأشعة، ومع الفحص تبين أن الجنين قد مات، فكان قرار الطبيب أنها تحتاج لعملية فورًا، مضيفًا أنه يجب وجود أحد من أهلها للتوقيع على إقرار الموافقة، فاقتربت سماح من ابنة سعاد التي كانت لا تزال واقفة بجانب أمها ولا تتوقف عن البكاء :
- كلمي ابوكي خليه يجي ..
= أنا خايفة على ماما ..
- كلميه بسرعة .. هتبقى كويسة إن شاء الله .
بعد نصف ساعة حضر زوج سعاد، وما إن رأته سماح حتى كادت أن تتشاجر معه:
- منك لله .. عاوز تقتلها ..
= انتي هتلبسيني تهمة .. وسعي كده خليني اشوف الدكتور عاوز إيه ..
أمام غرفة العمليات وقف مصوبًا عينيه إلى ابنته التي انتفضت من نظرته، فاختبأت مرتعشة خلف سماح التي احتضنتها وهي تقول:
- ياقلبي يابنتي .. ربنا يقومها بالسلامة علشانك انتي واخواتك ..
لكن لم يكد مفعول تلك الكلمات يسري في روح وجسد الصغيرة .. حتى امتدت يد أبيها تنتزعها من حضن الجارة التي أمسكت بها مستفسرة:
- واخِد البت على فين؟!
= انتي مالك ..، ثم جر ابنته خلفه وهو يبتعد قليلًا عن مكان الانتظار.
كانت نظرات سلوى لسماح وكأنها ترجوها ألا تتركها، فمشت خلفهما دون أن يشعرا، كان والد سلوى قد أوقفها أمامه في زاوية منعزلة وبدا وكأنه يتوعدها أو يهددها وهو يشير بإصبعه ناحيتها، فاقتربت سماح بقدر ما تستطيع، عندما سمعته يقول لسلوى:
-لو أعرف انك نطقتي بكلمة، هيكون آخر عمرك ..
= حاضر .. بس والنبي يا بابا متضربهاش تاني ..
عندها اندفعت سماح واختطفت سلوى بين ذراعيها وهي تشير إليه بتهديد:
- منك لله يا مفتري .. أنا سمعت كل حاجة ..
دفعها من أمامه وهو يصرخ فيها ..
= اسكتي، إنتي متعرفيش حاجة، دول خمس عيال أجيب لهم منين؟!
ثم تركهما وخرج!
أثناء إفاقة سعاد من آثار البنج كانت تبحث بعينيها عن ابنتها وعن سماح، فالتقت عيناها بعيني محمود، الذي كان يقف هناك بركن الغرفة وعلى وجهه علامات القلق والتوتر، فتدفقت الدموع من عينيها، اقتربت منها سماح تمسح لها دموعها وتربت على كتفها ثم مسحت على شعرها ..
- اوعي تزعلي .. والله لاجيب لك حقك منه .. أنا عرفت إللي حصل ..
- انتفضت سعاد وهي تمسك بيدها كف سماح ..
= لأ معملش حاجة، أنا إللي وقعت .. دول خمسة يا سماح، مين هيصرف ويربيهم ..
- تركت سماح يدها وهي تتراجع غير مصدقة لما تقوله ..
- بتضيعي حقك وهتندمي .. أنا قولتلك اهو ..
بخطوات مترددة اقترب محمود من سرير سعاد، وانحنى ممسكًا بكفها يضعه على فمه وهو يَدَّعِي البكاء .. فنظرت إليه وقد رسمت على وجهها الباهت ابتسامة مريرة .. ثم نزعت يدها من بين كفيه وأدارت وجهها للجهة الأخرى.